نيسان البعيد
كان من المفترض أن تصلك هذه الرسالة البارحة، ولكني لم استطع أن أكملها، لم أتمكن من كتابة رسالة واضحة أخبرك فيها عمّا يجول في خاطري، كتبت الكثير وتراجعت عنه، لم أدري كيف أصوغ لك ما حدث وما كان يجب أن يحدث وما أردته أنا أن يحدث بلغة يمكنك فهمها، اليوم سأبعث لك محاولاتي في الكتابة، سأبعث لك ارتباكي وخوفي وعجزي وغضبي وحزني وحقدي..
استيقظُت البارحة على نبأ استشهاد ثلاثة شبان من مخيم قلنديا، على إثر مواجهات دارت بين شباب المخيم وجيش الاحتلال بعد اقتحامه للمخيم بهدف اعتقال أحد المطاردين فيه. للوهلة الأولى لم أدري ماذا أفعل، شعرت بالعجز، وبأني بعيدة عن الحدث بمقدار قربي منه. حملت هاتفي بشكل تلقائي لأخبر من أتمكن من اخباره من الأصدقاء بالخبر المفجع، انتشر الخبرسريعاً، ووصلتني عدة مكالمات لنفس السبب. اتفقنا على أن نلتقي في مستشفى رام الله لنخرج بعدها في جنازة الشهداء، فهذا أقل ما يمكن فعله.
وصلنا إلى المستفشى في نفس الوقت وبدون ترتيب، كل من أعرفهم هناك، الوجوه شاحبة وغاضبة، وبمجرد تبادلنا للنظرات عرفنا أن خروجنا في الجنازة لن يكفي...
في محاولة سرد الحدث (1)
ما حصل اليوم هو أنني استيقظت فعلاً على نبأ استشهاد ثلاثة شبان من مخيم قلنديا، شعرت بغصة استمرت حتى اخر النهار، شعرت بالعجز، لم أدري ما الذي يجب أن افعله، وفي الحقيقة سيطر عليّ هذا الشعور ولم أفعل شيئاً.، لم أذهب للمشفى ولم احضر الجنازة، وهذا لا يعني أن أحداً لم يذهب، ولكننا لم نكن كثر، لم تتح لنا الفرصة لتبادل النظرات بصمت لندرك أن ما حصل اليوم لن يمر مرور الكرام.
تابع للسيناريو:
أمدّنا المشهد الغاضب في الجنازة بطاقة رهيبة، وأودعت فينا الأمهات اللواتي وقفن يودعن أولادهن رغبة جامحة في الثأر، لم نكن نعرف ما الذي سنفعله ولكننا كنّا على يقين بأننا سنفعل شيئا.
أمدّنا المشهد الغاضب في الجنازة بطاقة رهيبة، وأودعت فينا الأمهات اللواتي وقفن يودعن أولادهن رغبة جامحة في الثأر، لم نكن نعرف ما الذي سنفعله ولكننا كنّا على يقين بأننا سنفعل شيئا.
اجتمعنا في مكان نجتمع فيه عادة لترتيب بعض الفعاليات، ناقشنا سوية ما الذي يمكننا فعله لنثأر لدماء الشهداء، كل منا لديه ما يقوله بشأن من يتحمل مسؤلية هذا الصمت الشعبي القاتل، علت أصواتنا وشتمنا بعضنا، خيم الصمت لوهلة، تكلم أحدنا بصوت منخفض فالتفت الجميع إليه، بكلماته المتزنة عدنا بدورنا لحالة التوازن، ارتفع صوته فدب فينا الحماس، تقافزت الأفكار هنا وهناك، كلٌ التقط فكرته وبدأ بتنفيذها، غدا ستفيق المدينة على مشهد يليق بالشهداء.
في محاولة سرد الحدث (2)
معظمنا التزم بيته اليوم (ولم يحدث ما تخيلته في السطور السابقة)، ولم نشارك في الجنازة، لم نسمع صراخ الأمهات وبكائهن، لم نحتفي بصوت الرصاص الذي زف الشهداء، ولم نرى الغضب. بقينا في منازلنا متسمرين خلف الشاشة اللعينة، نبكي قليلاً، ونشتم من يستحق الشتم، ونشعر بالعار يحيط بنا أينما التفتنا. لو لم يختزل هذا العالم الافتراضي كل شيء لو لم يجلعنا نتقمص الثورة والحزن والغضب والشجاعة، لو أننا لا نمتلك هذه الفسحة الوهمية، لكان الشارع منزلنا الآن، لما كنا رضينا أن يمر اليوم بسلام، لا أدري ماذا يفيد التمني، ولا أدري إن كنت أبرر خيبتنا!
زُفَّ الشهداء إلى مقبرة مخيم قلنديا من داخل المخيم بعد أن منعت أجهزة الأمن الفلسطينية أي مظهر جنائزي داخل مدينة رام الله، عاشت المدينة لأجل ذلك فترة ظهيرة طبيعية بدون أن يعكر أي شيء صفو الحياة فيها! لم تبث أي قناة تلفزيونية فلسطينية مراسم الدفن والتشييع وكأن شيئا لم يكن، وحدها قناة الأقصى اهتمت بالحدث فخصصت موجة مفتوحة لمتابعة اخبار اقتحام المخيم ونقلت الجنازة، ولكنها لم تتوانى في استغلال دماء الشهداء لتمرير رسائلها السياسية. في وقت متأخر من النهار أغلقت المحلات التجارية في مدينة رام الله "بالخاوة"، حيث قام مجموعة من الشباب بإعلان الحداد على أرواح الشهداء، مجبرين أصحاب المحلات التجارية على اغلاق محالهم.
في المخيم كل شيء بدا مختلف، الأزقة التي شهدت المواجهات الشرسة بدت اليوم أكثر فخراً، أسوار البيوت في المخيم والتي هدمها أصحابها لإن الحجارة في المخيم لم تكن كافية أثناء المواجهات، بدت اليوم أجمل من أي وقت مضى. مقبرة الشهداء في مخيم قلنديا احتضنت الأبطال على وقع زخات الرصاص، ولا بد أنها الآن تبذل ما في وسعها لاحتضان أجسادهم الراقدة تحت التراب ريثما ترقد أرواحهم التي تطالب بالثأر.
انتهى هذا اليوم الدامي، وسننام نحن بعد أن نمل من متابعة ما يكتبه الأخرون على الفيسبوك، سنغمض أعيننا المتعبة من النظر إلى الشاشة المضيئة، سنغرق في نوم عميق نستفيق منه إلى سبات أعمق.
بينما نحن نيام وفي مكان ليس بالبعيد أبدا، هناك في قلنديا، عيون كثيرة أدماها الحزن، ولم تعد ترى من كثرة البكاء، لن تستطيع النوم. هذه العيون ستبقى تحرس الأسرّة الفارغة، لن تغرق في سبات مثلنا ستبقى تنتظر عودة من غابوا!!
أما أنا يا نيسان نمت وأنا أحلم بنا نثأر لأرواح الشهداء، نمت وأنا أتخيل هذا العالم كيف كان سيبدو بدون مساحات التعبير الوهمية التي أصبحنا عبيداً لها، نمت وأنا أحلم بالمدينة تبدو كمدينة فقدت ثلاثة من أبنائها، يا لسذاجتي ويا لعمق الشعور بالعجز داخلي! لم يبقى شيء أخبرك به، هذا كل ما خطر ببالي يوم أمس وصباح اليوم.
كن بخير
بينما نحن نيام وفي مكان ليس بالبعيد أبدا، هناك في قلنديا، عيون كثيرة أدماها الحزن، ولم تعد ترى من كثرة البكاء، لن تستطيع النوم. هذه العيون ستبقى تحرس الأسرّة الفارغة، لن تغرق في سبات مثلنا ستبقى تنتظر عودة من غابوا!!
أما أنا يا نيسان نمت وأنا أحلم بنا نثأر لأرواح الشهداء، نمت وأنا أتخيل هذا العالم كيف كان سيبدو بدون مساحات التعبير الوهمية التي أصبحنا عبيداً لها، نمت وأنا أحلم بالمدينة تبدو كمدينة فقدت ثلاثة من أبنائها، يا لسذاجتي ويا لعمق الشعور بالعجز داخلي! لم يبقى شيء أخبرك به، هذا كل ما خطر ببالي يوم أمس وصباح اليوم.
كن بخير
صديقتك يا نيسان
No comments:
Post a Comment