نيسان..
اشتقت لاسمك، نيسان، اشتقت لصوت الحروف يتقافز في رأسي ويلهو به، اشتقت لقلبي يهمس نيسان كلما اشتدت به الصعاب. أي شوق هذا الذي حملتني إياه ورحلت؟ أي لعنة انت؟ كل شيء حولي تبدل، قلبي لم يعد هو الذي عهدته، صوتي لم يعد هو نفسه، عيوني أصبحت عيوناً عتيقة، عتيقة جداً. ضحكتي تغيرت رنتها، ولكن شوقي إليك لم يذهب، شوقي إليك اضحى عفريتاً يسكن جسدي؛ من رأسي حتى أطرافي. عندما أحرّك يدي بإتجاه رقبتي يسقط بعض الشوق منها، أراه يتناثر حولي فتُصيبني نوبة من الذهول أو التبلد، أعود إليك، لأيامك الأولى، أعود لاسمك، اسمك أول ماعرفته فيك وأول ما عشته معك. أنا اليوم ثقيلة، أورَثتني ما لا أستطيع ادراكه، كيف يمكن أن أكون وفية لاسمك وأنا لطيلة بعدك عني أصبحت أشتاق اليه.
قد نحب أحدهم، وبعد سنة، سنتين أو أكثر، نكتشف أننا وقعنا في فخ الحضور الأول الذي يمنحنا اياه الحب، التناقضات الأولى، الاختلافات الأولى، لذة أن نكون مع آخر قد لا يشبهنا أبداً أو لربما يشبهنا حدّ الملل. خلال سنوات الحب هذه تتخلق داخلنا عوالم قد لا نستطيع التخلص منها أبدا. وبعد أن نخرج من علاقة مع أحدهم نكتشف تعويذة خطها الحب فوق قلوبنا، ولن نعرف كيف نقرأها، كيف نتخلص منها، كيف نزيل أثرها، تعويذتك كانت اسمك. باسمك أصبحت ثقيلة جدا، أريد أن أشارك أحداً ما لعنتي، ولكن كيف لي وأنا عاهدتك أن أبقى وفية لك؟! أحاول أن أتخطاها، أتخطاك انت، أن أتجاوز اسمك، ولكني في كل مرة أتوقف عن الكتابة إليك، عن التخلص من لعنتك، أراني، أخرج منها إليها.
اليوم تمنيت أن اكون نوتة، نوتة في لحن ما، لربما لحن قديم، من دنده لأول مرة مات من فرط النشوة به. وبعدها تخلّق فوق شفاه فتاة من شدة حزنها دندته ورحلت. لحن قديم نسيه الناس لألف عام أو أكثر، فجاء شاب عاشق وعزفه ليلاً فتنهدت كل كائنات الكوكب بذات اللحظة فمسه الخوف وتوقف عن العزف للأبد. هل سأكون جميلة إن كنت نوتة؟ هل ستعهد لي باسمك لأحفظه لحناً واغنية ورقصاً؟ هل ستسكنني بين شفتيك؟ وستقول لي استريحي على طرف شفتي السفلى، وإذا شعرتِ بضيق الكوكب تعالي لأحفطك أغنية في قلبي؟ أغنية أكون أنا نوتتها الوحيدة. اليوم تمنيت أن أكون نوتة، لإني أعرف أن الأغاني يمكنها تحلق في الفضاء لتطمئن على أحبائنا الذين رحلوا عنا، وتعود لترقد على صوت نبضنا بعد أن يسكن. وأنا إن كنت نوتة يا نيسان سأستطيع الوصول إليك، وعندها سأهمس في أذنك، عد يا نيسان، كيفما شئت عد!
هذا ما كتبته لك ليلة البارحة، كتبت إليك بكل ما اوتيت من حزن، ورقدت فوق قلبي لعله يتوقف عن النبض شوقا فاستريح. ما كان يجب أن أسكبك فوق الورق قبل أن أنام. بفعلتي هذه دعوتك لتسكنني ليلا، ولتظهر لي في المرآة صباحا، لتقف أمامي وأنا أسرح شعري، وتهمس في أذني: "لو لم يكن شعرك اسوداً لما استطعت الاختباء فيه ليلا، لما استطعت الوصول اليكِ". أغمض عيني بقوة وافتحهما بسرعة فتسقط أنت منهما، تنهض مسرعاً وتعبر من خلال المرآة وتختفي، وتترك لي اسمك. أقلبه بين كفي، ألمسه بأطراف أصابعي، وارتديه بسمة تعينيني على مواجهة حقيقة انه يجب أن أستمر بالرغم من كل شيء، بسمة تداعب شفتاي عندما يصيبني اليأس على حين غرة، أرتديه سواداً تحت عيني، وألتحفه ظلاً لكي لا يتوه ظلي عني.
طَلْ وسَألني اذا نيسان دق الباب..
إنه الأول من نيسان، أنت لم تأتِ بالطبع، وأنا لم أنتظر قدومك، لم يسألني عنك اصدقائي، وإنما احتفلو بك، سواء عدت أم لم تعد فأنت تعيش بيننا. قصتك التي لا أملُّ من روايتها تمنحني ومن حولي القوة لنحكي قصصنا، ولنسمع قصص الآخرين. حديثي إليك يبث فيَّ الأمل، ليس ذلك الأمل الزائف الذي يوهمنا بأن الحياة لن تحمل لنا المزيد من الألم مجددا، وإنما هو الأمل بأن نعيش حياة سنكون فخورين بها عندما يسألنا أبناؤنا عنها.
إلى الأصدقاء، أصدقائي وأصدقاء نيسان: نَجوْنا بالكتابة، وسننجو بها
اكتبو قصصكم عن أحبائكم يا أصدقاء، اكتبوا لهم وعنهم، احكوا لنا عمن رحلوا، من كان يجب أن نعرفهم لكن حماقات الكوكب أخذتهم بعيدا. اكتبوا عن شوقكم وأرسلوه لهم دمعة أو بسمة أو لحناً حرا. اكتبوا عن حزنكم، لا تخجلوا منه فهو أنبل ما فيكم. اكتبوا عن فرحكم المنقوص بدونهم، عن أحلامكم التي نذرتموها للشوق. اكتبوا لهم، للذين رحلوا بعيداً ولم تغب ذكراهم يوما. أخبروهم أن الحياة بعدهم تنقصها الكثير من الضحكات، وأن شوقكم لهم أصبح عادة كونية تشبه بزوغ الشمس كل فجر. أخبروهم عن أحوالكم، عن عالمكم الذي اختلف بعدهم. عن حياتكم التي سكنت، أو التي تغيرت فأصبحت غريبة حتى عنكم. شاركوهم لحظاتكم الأكثر حرجاً، أفكاركم الأكثر سذاجة، ابعثوا لهم أمنياتكم الصغيرة جدا. أحبوهم ولا تخفوا حبكم لهم، لا تخجلوا من الحديث عنه، ولا تحاولوا إنكاره على أنفسكم، واعرفوا دائما أنهم يبعثون لكم من يحرس أرواحكم ومن يحمي قلوبكم لكي لا تهرم من بعدهم.
No comments:
Post a Comment