عزيزي نيسان،
كنت قد أخبرتك من قبل أن المكان ضاق بي، وروحي لم تعد قادرة على التحليق في سماء باتت تعجز عن احتضانها، وكتبت لك مراراً عن توقي للرحيل. كنت قد صورت لك حزني ووحدتي ولكنك لم تفعل شيئاً غير أنك كففت عن الظهور، قل لي أني سأصبح روحاً تحلق في السماء وسآتي إليك.
أكره هذا الشعور القاتم، شعوري بأني وحيدة رغم الاكتظاظ الذي يعبث بحياتي، لا أدري اي تناقض هذا، ولا أدري متى سأنتهي منه. أحتاج لنفسي قوية لأقف بجانب نفسي، احتاجها لتصوبني عندما أخطئ، أحتاجها لأشكو لها ضعفي وبؤسي عندما تصبح خطواتي ثقيلة، أحتاجها لأحلم ولأبقى.
منذ مدة ورأسي ممتلئ بأفكار حول الموت، ماذا لو مت غدا؟ّ مذا لو كان هذا اخر يوم في حياتي، هل قلت كل ما أريد أن أقوله؟ هل أخبرت الذين أحبهم أني أفعل؟ ماذا عن الأحلام التي سأتركها خلفي؟ لمن سأتركها؟ هل تستحق مني هذه الحياة أن أتمسك بها أكثر؟ ما الذي سيدفعني لطرد فكرة الموت بعيداً والبحث عن اسباب الحياة والتمسك بها؟ هذا العالم مميت وقاتل يا نيسان، كل يوم نخسر شيء من الذي يضيء أرواحنا، ولا شيء يمكنه أن يعوضنا عن خساراتنا الصغيرة هذه.
في مثل هذا اليوم، وقبل ستة عشرعاماً توفيت جدتي. رحلت وتركت خلفها الكثير من الحزن، والكثير من القصص التي لم تحكها لنا. لروحها أبعث سلامي وشوقي، ولكن دعني أخبرك المزيد عنها.
عندما ماتت جدتي أصبحت نجمة في السماء، الجدات لا يرحلنّ عندما يمتن، لا يمكنهنّ أن يغادرنّ بهذه البساطة، هنّ فقط يصبحنّ متعبات متعبات جداً "وجع القلب بقصر العمر يا ستي"، وجدتي كان نصيبها من الحياة كل الوجع . قلبها الكبير لم يعد يحتمل، لحظات الانتظار أصبحت ثقيلة، ودموع الصلوات أصبحت مُرّة. حدثتُكَ عن "ستي صفية" من قبل، جدتي التي أورثتني ضحكتها الرنانة. وأكتب لك اليوم عن جدتي التي رحلت ولم أبكها. لم أبكها لإني كنت صغيرة لا أعرف معنى الموت، أنا لم أودعها ولم أرها ميتة، ولذلك بقيت في ذهني صورتها وهي على سجادة الصلاة، في حضنها مسبحتها الطويلة.
أراها ترفع يداها عالياً للدعاء ويختفي صوتها عندما تبدأ في البكاء، ويختفي بكائها عندما تراني استرق النظر من شق الباب، فتدعوني بيدها وتجلسني في حضنها، تداعبني حتى يعلو صوت ضحكتي تتبعها صوت ضحكتها، وبعد أن تتعب من الضحك تصمت قليلاً وتمسك بيدي وتنظر في عيني وتسألني: "أبوكي رح يطلع من السجن؟" ودون تردد أجيبها: "ااه طبعاً رح يطلع!".
أخبرتني أمي أن جدتي كانت دائماً تسألنا هذا السؤال: "رح يطلع أبوكم من السجن يا ستي؟؟" وكانت تقول: "خذ فالها من اطفالها". اجاباتنا أو نظرات عيوننا الصغيرة كانت تعني لها الكثير، جدتي كانت تؤمن أن الاطفال يقولون الصدق دائما، وأن الله هو من ينطقهم. في المرات القليلة التي كنّا نجيبها: "ستو بابا مطول ليطلع" كانت تصمت حزناً، وتغيب ضحكتها عن المنزل لعدة أيام.
لطالما سألت نفسي: ماذا لو لم تمت جدتي؟ يأخذني السؤال بعيدا بعيدا، لكان بيتها الآن جنة أحفادها، لكانت رائحة خبزها تدفئ الجدران القاتمة، ولكانت مزهرياتها المزركشة في مكانها في زوايا البيت وفوق النملية وعلى حافة النافذة، لكانت صورنا مغروسة في البراويز الكبيرة تبعث فيها الحياة، ولكنت الآن بقربها أداعبها وأمازحها وأخبرها أنها لازالت صبية وأنها جميلة تنافس صبايا العائلة بجمالها، وأني أحب غطاء رأسها الأبيض الطويل وأحب عصبتها المزركشة وأني أحب شامتها وأني ِأشبهها .. "صح يا ستي أنا بشبهك؟ أحكيلهم إني بشبهك خليهم يغارو مني..". ولكن جدتي الآن نجمة في السماء، نجمة بعيدة ومضيئة، وأنا لا أشبه نجمات السماء، ولا أعرف كيف أصبح مثلهن.
قبل عدة أيام التقيت بصديق لي صدف أن جدته كانت مريضة، لا أدري كيف حضرت جدتي إلى بالي حينها، أحسست أني مشتاقة جداً لها، وأحسست أن رحيلها كان صعب. لازمني هذا الشعور طوال اليوم وكأن جدتي ماتت البارحة، فقررت أن أمر بالمقبرة لأزورها في طريق عودتي الي البيت، وهكذا فعلت. وصلت المقبرة وكانت فارغة تماماً إلا من هذا الكم الهائل من الشواهد البيضاء، دخلت من الباب الذي اعتقدت أنه يوصل إلى قبر جدتي، ولكن كل شيء بدا مختلفا، قبر جدتي لم يعد بمكانه! قرأت شواهد أكثر من مائة قبر، وتجولت في المقبرة لمدة نصف ساعة أو أكثر، ولم أعثر على قبر جدتي. ياه كم مر من الوقت حتى نسيت أين هو القبر، غضبت من نفسي وشتمتها وعدت إلى المنزل دون أن أزور جدتي.
في صباح اليوم التالي علمت أن جدة صديقي قد توفت، غمرني حزن عميق، أنا لا أعرفها ولم أسمع عنها إلا القليل، ولكني أحسست بها تغادرني، وكأنها مرت أمامي مصطحبة معها جدتي، لم أكن قد فكرت بموت جدتي من قبل، لم أفكر بقلبها الذي اهترئ حزنا فقرر أن يستريح، ولم أنتبه لحقيقة أنها رحلت ولم أبكي لرحيلها إلا متأخراً. في تلك الليلة أخذني البكاء، بكيت كثيراً وودعت جدتي وأهديتها الكثير من الكلام، حاولت أن أتذكر كل التفاصيل التي جمعتني بها، بعض مما تذكرته كتبته لك، والبعض الآخر احتفظت به لنفسي.
لطالما سألت نفسي: ماذا لو لم تمت جدتي؟ يأخذني السؤال بعيدا بعيدا، لكان بيتها الآن جنة أحفادها، لكانت رائحة خبزها تدفئ الجدران القاتمة، ولكانت مزهرياتها المزركشة في مكانها في زوايا البيت وفوق النملية وعلى حافة النافذة، لكانت صورنا مغروسة في البراويز الكبيرة تبعث فيها الحياة، ولكنت الآن بقربها أداعبها وأمازحها وأخبرها أنها لازالت صبية وأنها جميلة تنافس صبايا العائلة بجمالها، وأني أحب غطاء رأسها الأبيض الطويل وأحب عصبتها المزركشة وأني أحب شامتها وأني ِأشبهها .. "صح يا ستي أنا بشبهك؟ أحكيلهم إني بشبهك خليهم يغارو مني..". ولكن جدتي الآن نجمة في السماء، نجمة بعيدة ومضيئة، وأنا لا أشبه نجمات السماء، ولا أعرف كيف أصبح مثلهن.
قبل عدة أيام التقيت بصديق لي صدف أن جدته كانت مريضة، لا أدري كيف حضرت جدتي إلى بالي حينها، أحسست أني مشتاقة جداً لها، وأحسست أن رحيلها كان صعب. لازمني هذا الشعور طوال اليوم وكأن جدتي ماتت البارحة، فقررت أن أمر بالمقبرة لأزورها في طريق عودتي الي البيت، وهكذا فعلت. وصلت المقبرة وكانت فارغة تماماً إلا من هذا الكم الهائل من الشواهد البيضاء، دخلت من الباب الذي اعتقدت أنه يوصل إلى قبر جدتي، ولكن كل شيء بدا مختلفا، قبر جدتي لم يعد بمكانه! قرأت شواهد أكثر من مائة قبر، وتجولت في المقبرة لمدة نصف ساعة أو أكثر، ولم أعثر على قبر جدتي. ياه كم مر من الوقت حتى نسيت أين هو القبر، غضبت من نفسي وشتمتها وعدت إلى المنزل دون أن أزور جدتي.
في صباح اليوم التالي علمت أن جدة صديقي قد توفت، غمرني حزن عميق، أنا لا أعرفها ولم أسمع عنها إلا القليل، ولكني أحسست بها تغادرني، وكأنها مرت أمامي مصطحبة معها جدتي، لم أكن قد فكرت بموت جدتي من قبل، لم أفكر بقلبها الذي اهترئ حزنا فقرر أن يستريح، ولم أنتبه لحقيقة أنها رحلت ولم أبكي لرحيلها إلا متأخراً. في تلك الليلة أخذني البكاء، بكيت كثيراً وودعت جدتي وأهديتها الكثير من الكلام، حاولت أن أتذكر كل التفاصيل التي جمعتني بها، بعض مما تذكرته كتبته لك، والبعض الآخر احتفظت به لنفسي.
أعلم أن الموت قريب منّا جدا، أعلم أنه يراقب خطواتنا، ويعد أنفاسنا، أعلم أنه يرافقنا إلى النوم، وأنه يستيقظ قبلنا في الصباح. الموت ليس حدثاً منفصلاً، وليس اللحظة الذي يصبح فيها الجسد دمية لا تتحرك، الموت في كل شيء والموت في التفاصيل. ونحن بالرغم من ذلك نعيش ونتشبث بالحياة، ونحلم ونقتات على الأمل، نحزن وتهرم قلوبنا ونظل ننتظر لتعود لصباها من جديد.
صديقتك التي هَرِمَ قلبها
صديقتك التي هَرِمَ قلبها
No comments:
Post a Comment