Wednesday, September 23, 2015

نيسان.. أنا اليوم بعيدة

نيسان يا كل الشوق، 

ما الذي يحدث حولنا، كم من المآسي سنشهد بعد؟! كم لقلوبنا أن تحتمل، وكيف لأرواحنا أن لا تصبح سوداء متشققة كالخشب المحترق؟ هذا العالم البشع بوسعه أن يكون أقسى، وبإمكانه أن يصبح أكثر وحشية، ونحن لم يعد بوسعنا أن نواجه كل هذا الألم بأمل قد يخذلنا يوماً ما، ولم يعد بوسعنا أن نتخيل أن ما يحزننا اليوم سيغدو سبباً يدفعنا للابتسام متمتمين لأنفسنا: "ياااه كم أصبحنا أقوياء". ستقول لي ما بالك تتحدثين كعجوز هرمة؟ وسأقول لك أيٌ منا لم تولد في داخله عجوز هرمة بعد؟! ستقول لي: ولكني عهدتك الأقوى وصاحبة الابتسامة الأعمق، ولطالما كانت عيونك تمتلك بريقاً يليق حتى بالحزن داخلك. وسأقول لك: أن السنوات الأخيرة قد تركت بداخلي حزناً يفوق ابتسامتي عمقا، حزناً يمكنه أن يطفئ بريق عينيّ كما تُطفئ شمعة تواجه نافذة مشرعة.

نعم نحن نواجه ظروف الحياة الصعبة بكل ما أوتينا من قوة، ونعم نحن نصنع معجازتنا الخاصة كل صباح، نعم ننهض من تحت الرماد ونواصل السير بعد أن ننفض ذُعرنا عن ملابسنا، ونسير بفخر، دائما نسير بفخر، لا يكسرنا الموت، ولا تُرهبنا المجازر البشعة، ولم ننهزم يوماً أمام الدم فهو قاتنا وزاد حقدنا. ولكننا يا صديقي قد ننهار أمام أول مشكلة عاطفية تواجهنا، ونقلع عن الأمل إذا ما سلبت منا الحياة عزيزا، تستنزفنا تفاصيل الحياة اليومية، ونعجز عن التعامل مع مشاكلنا العادية التافهة، ونفقد حكمتنا إذا تأخرنا عن موعد شرب القهوة في الصباح، ونلزم السرير متذرعين بأن حالة الطقس تشعرنا بالإكتئاب.

 في بعض الأحيان أشعر أنه لم  يبقَ لنا إلا أن نعلّق آمالنا وأحلام أطفالنا الذين لم يولدو بعد على أطراف الأغصان اليابسة في الطرقات التي نمشيها، وإن كنا نعلم جيداً أننا قد لا نراها مجددا. لربما يتشبث بها أحد غيرنا، ولربما تصير أحلامنا الصغيرة أمله، ولربما ترشده علاماتنا التي تركناها في طريقنا إلى طريقه التي ضل السبيل إليها.

قبل أسبوعين ذهبت لزيارة أخي محمد في سجن عوفر، لم تكن الزيارة هي رؤية وجه محمد وسماع صوته فحسب، أنا ذهبت لأعانق التحدي الذي كبر في عيني أخي وقد فعلت. قلب محمدٍ الذي أصبح بحجم الوطن قد خفق بنا عالياً لحظة رؤيته لنا، وقلبي أنا أصبح كالطفل الذي يختبئ خلف رداء أمه خشية أن يبعده أحد عنها. هذه ليست المرة الأولى التي أذهب فيها للزيارة ولكنها حتماً كانت مختلفة. كنت في السادسة من عمري عندما كان أبي يمضي أشهر السجن الإداري التي لا تنتهي في سجن مجدو، أذكر أننا كنا نستيقظ قبل أن تشرق الشمس، أستطيع أن أتذكر التفتيش والانتظار، يمكنني استرجاع بعض المشاهد حول شكل السجن وغرفة الزيارة والشبك الحديدي الذي لم يكن يسمح حتى لأصابعنا الصغيرة بالمرور من خلاله، ولكني مهما حاولت أعجز عن استحضار أي من المشاعر التي رافقتني أثناء زيارتي لأخي هذه المرة. لعلي لم أكن قد أدركت بعد أن الزيارة هي دموع الأمهات وغضبهنّ، هي شوقهنّ لرؤية عيون أولادهنّ، هي فخرهنّ، هي عظمة أرواحهنّ التي لا تغادرهنّ عندما يغادرنّ السجن بدون أبنائهنّ، وهي قلوبهنّ التي تخفق فرحاً وحزناً وشوقاً ولهفة في آن، هي انكسار أصواتهن أمام أصوات أولادهنّ القادمة من سماعة الهاتف، وهي إصرارهنّ على العودة مرة أخرى دون أن يفكرنّ حتى بأنهنّ تعبنّ. أعتقد أنهنّ لا يشغلن أنفسهنّ بالسؤال عن قبح العالم الذي أحضرنَّ أولادهنّ إليه، هنّ فقط فخورات لإنهن استطعنّ أن يكنَّ أمهات، أمهات رغماً عن كل شيء.

أنا الآن بعيدة، بعيدة عن كل ما اختبرته من مشاعر طوال السنين التي مضت، ما يرافقني اليوم مزيج غريب من كل شيء، خليط من الأحاسيس المألوفة وأخرى لا أدري كيف أصفها، أتسائل في كل يوم أي أثر سأتركه في هذه الدنيا، أي نور سينبعث من روحي إن صعدت للسماء وتركتني جسدا خاوياً يبكيه الأخرون ويوارون به حزنهم تحت التراب في مكان يخاف أن يزوره معظم البشر، يتعبني السؤال ويرهقني أنه لا يتركني ويبقى يدفعني نحو ما أجهله تماماً لعلي أجد جواباً أو لعل الجواب يجدني. لم أدعي يوماً أنني الأقوى، ولم أختر لنفسي طريقاً هي الأصعب، بالحقيقة أنا لم أمتلك الكثير من الخيارات في حياتي، كان يجب علي دائماً أن أكون قوية، أن لا أسمح لليأس بالتسلل داخلي، وكان يجب أن أمضي دون أن ألتفت للوراء. أؤمن تماماً أن لكل منا سبب لوجوده  في هذا العالم، وأن كل واحد منا يحمل ما يضيء له دربه ويحمل عنه روحه المثقلة بحزن الكوكب، في النهاية يا نيسان نحن لا نعيش في عالم بشع وقاسٍ لنموت هكذا دن أن نترك نوراً خلفنا.

لا بد أنك لاحظت أني لم أعد أشعر بالرغبة في الكتابة إليك كما في السابق، من يتعود الصمت يألفه يا نيسان، ومن يألف الصمت سيصعب عليه البوح، ويبدو أن الكتابة هذه المرة ستأخذني إلى عولم جديدة ومختلفة تماماً عن كل ما عشناه معاً. إلّا أن الكتابة إليك ستبقى في قلبي كما القُبلة الأولى، مضطرون نحن لتجاوزها ولكننا نحتفظ بابتسامتنا كلما عدنا إليها. هذا لا يعني أنها آخر مرة سأكتب لك فيها، ولكني حتماً لا أعدك بالكثير.

حتى ألقاك روحاً تحلق بروحي بعيدا، لك مني كل الحب.




No comments:

Post a Comment