Tuesday, August 27, 2013

في محاولة سرد الحدث

نيسان البعيد 

كان من المفترض أن تصلك هذه الرسالة البارحة، ولكني لم استطع أن أكملها، لم أتمكن من كتابة رسالة واضحة أخبرك فيها عمّا يجول في خاطري، كتبت الكثير وتراجعت عنه، لم أدري كيف أصوغ لك ما حدث وما كان يجب أن يحدث وما أردته أنا أن يحدث بلغة يمكنك فهمها، اليوم سأبعث لك محاولاتي  في الكتابة، سأبعث لك ارتباكي وخوفي وعجزي وغضبي وحزني وحقدي..
سيناريو:
استيقظُت البارحة على نبأ استشهاد ثلاثة شبان من مخيم قلنديا، على إثر مواجهات دارت بين شباب المخيم وجيش الاحتلال بعد اقتحامه للمخيم بهدف اعتقال أحد المطاردين فيه. للوهلة الأولى لم أدري ماذا أفعل، شعرت بالعجز، وبأني بعيدة عن الحدث بمقدار قربي منه.  حملت هاتفي بشكل تلقائي لأخبر من أتمكن من اخباره من الأصدقاء بالخبر المفجع، انتشر الخبرسريعاً، ووصلتني عدة مكالمات  لنفس السبب. اتفقنا على أن نلتقي في مستشفى رام الله لنخرج بعدها في جنازة الشهداء، فهذا أقل ما يمكن فعله.
وصلنا إلى المستفشى في نفس الوقت وبدون ترتيب، كل من أعرفهم هناك، الوجوه شاحبة وغاضبة، وبمجرد تبادلنا للنظرات عرفنا أن خروجنا في الجنازة لن يكفي...

في محاولة سرد الحدث (1)
ما حصل اليوم هو أنني استيقظت فعلاً على نبأ استشهاد ثلاثة شبان من مخيم قلنديا، شعرت بغصة استمرت حتى اخر النهار، شعرت بالعجز، لم أدري ما الذي يجب أن افعله، وفي الحقيقة سيطر عليّ هذا الشعور ولم أفعل شيئاً.، لم أذهب للمشفى ولم احضر الجنازة، وهذا لا يعني أن أحداً لم يذهب، ولكننا لم نكن كثر، لم تتح لنا الفرصة لتبادل النظرات بصمت لندرك أن ما حصل اليوم لن يمر مرور الكرام.

تابع للسيناريو:
أمدّنا المشهد الغاضب في الجنازة بطاقة رهيبة، وأودعت فينا الأمهات اللواتي وقفن يودعن أولادهن رغبة جامحة في الثأر، لم نكن نعرف ما الذي سنفعله ولكننا كنّا على يقين بأننا سنفعل شيئا.
اجتمعنا في مكان نجتمع فيه عادة لترتيب بعض الفعاليات، ناقشنا سوية ما الذي يمكننا فعله لنثأر لدماء الشهداء، كل منا لديه ما يقوله بشأن من يتحمل مسؤلية هذا الصمت الشعبي القاتل، علت أصواتنا وشتمنا بعضنا، خيم الصمت لوهلة، تكلم أحدنا بصوت منخفض فالتفت الجميع إليه، بكلماته المتزنة عدنا بدورنا لحالة التوازن، ارتفع صوته فدب فينا الحماس، تقافزت الأفكار هنا وهناك، كلٌ التقط فكرته وبدأ بتنفيذها، غدا ستفيق المدينة على مشهد يليق بالشهداء.

في محاولة سرد الحدث (2)
معظمنا التزم بيته اليوم (ولم يحدث ما تخيلته في السطور السابقة)، ولم نشارك في الجنازة، لم نسمع صراخ الأمهات وبكائهن، لم نحتفي بصوت الرصاص الذي زف الشهداء، ولم نرى الغضب.  بقينا في منازلنا متسمرين خلف الشاشة اللعينة، نبكي قليلاً، ونشتم من يستحق الشتم، ونشعر بالعار يحيط بنا أينما التفتنا. لو لم يختزل هذا العالم الافتراضي كل شيء لو لم يجلعنا نتقمص الثورة والحزن والغضب والشجاعة، لو أننا لا نمتلك هذه الفسحة الوهمية، لكان الشارع منزلنا الآن، لما كنا رضينا أن يمر اليوم بسلام، لا أدري ماذا يفيد التمني، ولا أدري إن كنت أبرر خيبتنا!
زُفَّ الشهداء إلى مقبرة مخيم قلنديا من داخل المخيم بعد أن منعت أجهزة  الأمن الفلسطينية أي مظهر جنائزي داخل مدينة رام الله، عاشت المدينة لأجل ذلك فترة ظهيرة طبيعية بدون أن يعكر أي شيء صفو الحياة فيها! لم تبث أي قناة تلفزيونية فلسطينية مراسم الدفن والتشييع وكأن شيئا لم يكن، وحدها قناة الأقصى اهتمت بالحدث فخصصت موجة مفتوحة لمتابعة اخبار اقتحام المخيم ونقلت الجنازة، ولكنها  لم تتوانى في استغلال دماء الشهداء لتمرير رسائلها السياسية. في وقت متأخر من النهار أغلقت المحلات التجارية في مدينة رام الله "بالخاوة"، حيث قام مجموعة من الشباب بإعلان الحداد على أرواح الشهداء، مجبرين أصحاب المحلات التجارية على اغلاق محالهم.
 في المخيم كل شيء بدا مختلف، الأزقة التي شهدت المواجهات الشرسة بدت اليوم أكثر فخراً، أسوار البيوت في المخيم والتي هدمها أصحابها لإن الحجارة في المخيم لم تكن كافية أثناء المواجهات،  بدت اليوم أجمل من أي وقت مضى. مقبرة الشهداء في مخيم قلنديا احتضنت الأبطال على وقع زخات الرصاص، ولا بد أنها الآن تبذل ما في وسعها لاحتضان أجسادهم الراقدة تحت التراب ريثما ترقد أرواحهم التي تطالب بالثأر. 
انتهى هذا اليوم الدامي، وسننام نحن بعد أن نمل من متابعة ما يكتبه الأخرون على الفيسبوك، سنغمض أعيننا المتعبة من النظر إلى الشاشة المضيئة، سنغرق في نوم عميق نستفيق منه إلى سبات أعمق.
بينما نحن نيام وفي مكان ليس بالبعيد أبدا، هناك في قلنديا، عيون كثيرة أدماها الحزن، ولم تعد ترى من كثرة البكاء، لن تستطيع النوم. هذه العيون ستبقى تحرس الأسرّة الفارغة، لن تغرق في سبات مثلنا ستبقى تنتظر عودة من غابوا!!


أما أنا يا نيسان نمت وأنا أحلم بنا نثأر لأرواح الشهداء، نمت وأنا أتخيل هذا العالم كيف كان سيبدو بدون مساحات التعبير الوهمية التي أصبحنا عبيداً لها، نمت وأنا أحلم بالمدينة تبدو كمدينة فقدت ثلاثة من أبنائها، يا لسذاجتي ويا لعمق الشعور بالعجز داخلي! لم يبقى شيء أخبرك به، هذا كل ما خطر ببالي يوم أمس وصباح اليوم. 

كن بخير

صديقتك يا نيسان

Monday, August 19, 2013

اخنقنا يا وطن بنحبك أكثر

نيسان 

كان هذا المساء قاتماً بما يكفي ليدفعني للكتابة إليك، لا بد أنها المرة الأولى التي لا أشعر فيها أن شوقي إليك يطغى على كل شيء حولي، يبدو وأن وجعاً يرافقني مؤخراً كان كفيلاً  باطفاء بعض من الشوق داخلي.

"اخنقنا يا وطن بنحبك أكثر" هي جملة اعتادت أن تكتبها إحدى صديقاتي على صفحتها الشخصية على الفيسبوك، في البداية لم أكن أدري عن ماذا تتحدث، كيف لنا أن نعشق وطناً يلفظنا خارجه؟ كيف لنا أن نحلم بالمكان وهو يضيق بنا؟ لماذا يجب أن نعشق إلى حد الاختناق؟ ألا يمكننا أن نحب الوطن بسعادة كتلك التي ترافق المحبين؟ لم أستطع أن أجد منطقا في جملتها التي تكررت كثيراً أمامي، حتى جائت اللحظة التي اختنقت فيها حباً ووجعاً وحلماً! بعد ذلك فَهِمْت، وبِتُّ أعتقد أن لا أحد يحب الوطن إلا إذا شعر بالاختناق!

 ولتفهم ما أقوله أكثر: الذي لا يرى وجع الوطن فهو لا يرى الوطن. ومن يمشي في شوارع " رام الله\ العاصمة" الضيقة رغم اتساعها دون أن يشعر بسذاجة فكرة أنه يمشي الآن، فهو واقع في حب الدولة، ولا يدري ما هو الوطن أصلا. من ينظر إلى السماء دون أن يشاهد حزن الأرض، فهو حتما لا يرى بقلبه. من يستنشق النسيم البارد ولا تراوده فكرة أن يتشبث به ويرحل معه، فهو حتماً ليس بعاشق ولن يكون يوماً!

يوجعنا حب الوطن، يوجعنا لإنه لم يعد قادراً على احتضاننا، يوجعنا لإننا لم نعد جدرين بامتلاكه، يوجعننا لإننا أمامه نشعر بضعفنا وعجزنا، يوجعنا لإنه يسلب الجنون منا. ويوجعنا الوطن لإنه ضاق بنا، ووضعنا أمام خيار الرحيل الذي لا نحبه! يا إلهي كم هي مخيفة فكرة الرحيل! مرعبة! لمن سنتركه إن رحلنا؟ وأين سنذهب بأرواحنا المعلقة به؟ من سنكون بعيدين عنه؟

في سرّي أفضل أن أحبه حد الإختناق، وفي سرّي أرغب بالرحيل فلم يعد هنالك ما يكفي من الهواء، وفي سرّي أحبه وألعنه وألعن نفسي التي ضاقت بها البلاد، ألعن قلبي الضعيف الذي لم يعد يقدر على احتمال المزيد، وألعن الحلم والأمل اللذان يتجددان داخلي. ولكن.. هو الوطن يدفعنا للرحيل، يطردنا بعيداً عنه، يسكننا حد الامتلاء، يعاقبنا، ويمنحنا لحظات من الجنون، يهدينا انكساراته، يصيبنا بعدوى الأمل، يزرع فينا الحزن، ويخنقناااا، وأحبه حد الاختناق، وأهتف كلما ضاقت بي سبل العيش هنا "اخنقنا يا وطن بنحبك أكثر".

ارجع يا نيسان، لا أريد أن أفقدك للأبد، لا أريد لوجهك أن يصبح صامتاً، لا أريد لقلبي أن يقسو عليك أكثر.


صديقتك المختنقة بحب الوطن


Saturday, August 10, 2013

الامل حلم ليس أكثر

عزيزي نيسان

أكتب لك اليوم وأنا أختنق بالحروف التي تصيغ هذه الرسالة، لم تعد تراودني تلك الرغبة الجامحة في الكتابة، ولم أعد أمتلك ما يكفي من القوة للبوح دون الانخراط في مزيج من البكاء والحزن، لست تعيسة كما يبدو لك ولكني تعبت من محاولات أن لا أصل إلى التعاسة. فيما مضى كنت  فتاة كئيبة متشائمة، تتقزز من الأمل، ولربما تحتقر المتفائلين، ترى أن الحياة انتهت، وأن لا جدوى من ادعاء السعادة أو محاولة الوصول إليها. لا أدري أيُّ مسٍّ أصابني فتغيرتُّ بالرغم من أن كل شيء  حولي أصبح أسوأ، لن أقول أنني اصبحت سعيدة أنشر الابتسامات وأزرع الأمل، إلا أنني وبدون شك غدوت فتاة حالمة! 

ياه ما الذي يمكن لفتاة تمتلك حلماً، وتدرك أنها تمتلكه أن تفعل. لا بد أن بمقدورها تغيير العالم من حولها! وأنا لا خيار لي..  إن مات الحلم سأموت معه، سأغادر هذه العلم المجحف، فلا حياة فيه بدون أمل، والأمل حلم ليس أكثر.

لا أتكلم عن الأحلام البلهاء التي تبيعها لنا وسائل الإعلام المزركشة، لا أتكلم عن أحلام الفتيات في قصص الحب ومغامرات الغرام، لا أتخيل شاباً وسيماً وفستاناً أبيضاً، والكثير من الورود الحمراء المبعثرة حول بعض الشموع. ما أتكلم عنه  يا نيسان هو حياة وكثير من التفاصيل الصغيرة التي تشكلها، ما يجول بخاطري الآن لا يمكن تدوينه، لا يمكنني اختزاله ببعض الكلمات أو حتى بالكثير منها. لم أبنِ أحلامي هنالك فوق غيمات السماء التي لا بد وأن تبعثرها الرياح، لم أهرب من الواقع ولم أنفصل عنه، ولكني وجدت لنفسي حلماً أعرف أن تحقيقه صعب، أعلم جيداً أنني سأبكي كثيراً بسببه، أن الكثير من الوجع سيرافقني؛ ولكن إن كان لا بد من أن نستمر على هذا الكوكب المقيت فيجب على كل واحد منا أن يجد حلمه الذي سيوصله بالنهاية إلى نفسه.


قالت لي ان بيتنا في تونس سيشبه هذا البيت!ابتسمت، تخيلت البيت ونوافذه، غرفتي المليئة بالكتب وقصاصات الورق المبعثرة، رأيت الطريق الضيق الذي يوصلنا للبيت، رأيت السماء تحتضن القمر الذي طالما حلمت به، رأيتنا نخرج صباحاً من المنزل تصرخ إحدانا على الأخرى لإاننا تأخرنا، رأيتنا نعود للبيت تسبقنا ضحكاتنا وخطواتنا الفرحة، رأيت الحزن والفرح، رأيت النجاحات وبعض الاخفاقات، رأيتني أعيش الجنون بحب لا مثيل له. وها أنا عدت من بيتنا في تونس.. من شاشة الكومبيوتر.. من الصورة التي أرسلَتها صديقتي مبتسمة "بيتنا في تونس رح يشبه هاد :)"، عدت لأكمل الرسالة ولكن الحلم رافقني اليك.

لا أدري يا نيسان أي أمل يمكنه أن ينتشلنا من عمق الوجع، لا أدري أي حلم يمكنه أن يحملنا إلى أنفسنا، ولكن الكثير من الوجع لن يمنعني من أن أحتفظ بالكثير من الابتسامات لي ولمن حولي، الكثير من الوجع يعني أننا ما زلنا على قيد الحياة، ويعني أن الحلم وطن وحياة والكثير من التفاصيل الصغيرة التي تشكلهما.

صديقتك الحالمة.