نيسان..
مرت أربعة أشهر على غيابك، أشياء كثيرة تغيرت وأخرى بقيت على حالها، أما أنا فلم أعد أعرف ما الذي تغير فيّ وما الذي بقي على حاله، أحتاج الجرأة لمصارحة نفسي وإعادة اكتشافها من جديد، وأحتاج المزيد من الجرأة لمحاسبتها على الحماقات التي ترتكبها.
هل ما زلت مهتماً بسماع كل هذا؟ هل بقي في قلبك متسع لأحاديثي الطويلة؟ وهل لديك ما تخبرني به بعد كل هذا الغياب؟! أنا لدي الكثير لأقوله ولم أعد أنتظر منك الرد، أظن أني سأكتفي بالكتابة إليك لعلك تعود يوماً وتخبرني لماذا رحلت!
سأخبرك اليوم عن جدتي.. جدتي التي لم يبقَ لي من ذكراها إلا دموع الأم في عينيها، وضحكتها التي يقولون أنها تشبه ضحكتي، أكتب لك اليوم عنها بعد أن نسيت صورتها، لا بد أن وجع الوطن أحياها داخلي.
كنت صغيرة عندما رَحَلت، لم أكن أعرف ماذا يعني أن يموت أحدهم، فقط شعرت أنني يجب أن أكون حزينة، لا أدري ما الذي يعنيه الحزن لطفلة في السابعة، أذكر فقط أن قلبي كان ضيقاً يومها. جدتي لم تحلم بالكثير، لم يكن لديها الوقت لتحلم، لم تمتلك قطعة من السماء لتنثر عليها نجوم قلبها، أحزنها حزن الأخرين، وأثقلتها جراح الوطن، وقضت وهي تحلم بالطابون والحاكورة والبيدر، وبرؤية ابنها دون أن تحجب قضبان الأسر تفاصيل وجهه.
شاء القدر أن تنجب جدتي توأماً قبل حرب حزيران (1967) بعشرين يوم، وشاء القدر أن تحمل رضيعيها وتسير بهما من قرية إلى قرية حتى تصل مدينة رام الله، منهكة القلب مفرغة الفؤاد. شاء القدر أن يرافق ذكرى ميلاد أبي وعمي ذكرى اللجوء ومرارة التهجير، وشاء القدر أن تروي جدتي قصة الطابون والحاكورة والبيدر لولديها كل عام في يوم ميلادهما.
هي لم تكن تنوي الرحيل رغم الشقاء، لم تكن تريد أن تترك القرية ولا الأرض ولا دجاجاتها، لم تكن تريد أن تفوّت موسم الحصاد، لم تتذمر يوماً من العمل في الحقل، لم تكن تنوي مواجهة جدي بكسله وقسوته، لم تفكر يوماً بالصراخ في وجهه "ماذا تفعل أنت غير الجلوس في القهوة طوال اليوم! ماذا سيفيدنا حديثك في السياسة مع رجال القرية من الصباح حتى المساء؟ لماذا يجب أن ننتظر جيوش الآخرين لتحمي بيوتنا يا رجل!"
باختصار في قديم الزمان كان لنا أرض وبيدر، كانت لدينا دجاجات كثر تحبهن جدتي كأولادها، وكان لدى جدي قهوة يجلس فيها طوال اليوم (يعمل)، بينما تنهض جدتي باكراً.. تذهب للأرض.. تعتني بالزرع.. تخاطبه.. وتحنو عليه لينمو.. تعود للبيت.. تعد الطعام.. وتخبز على الطابون لها ولجاراتها اللواتي يحسدنها، لإن في القرية لا يوجد كخبزها؛ لا أحد يعرف سر خبز الطابون ذاك، وحدها جدتي التي كانت تبتسم كلما سألها أحد عن سرها.. وحدها كانت تعلم.
في الخامس من حزيران من العام 1967 اجتاح الجيش الإسرائيلي قرى اللطرون الثلاث (عمواس، يالو، بيت نوبا)، جدتي لم تتخيل يوماً أنها خلقت للرحيل، ولو أنها كانت "رجلاً" لحملت فأساً وحرست القرية ليلاً، ولم تنتظر إذناً من أحد. جدتي البسيطة بطبعها، أرادت أن تحمل معها "الراديو" لتعرف متى ستعود للدار، اقترحت على جدي أن تترك أحد التوأمين عند والده الذي رفض مغادرة القرية، لتتمكن من حمل "الراديو" فهي لن تطيق انتظار موعد العودة كثيراً! لا أدري بماذا كانت تفكر حينها، ولكني على يقين بأن فكرة الضياع ذهبت بها بعيدا، بحيث لم تعد تدري ماذا تفعل.
جدتي وأطفالها السبعة وباقي الأهالي طردوا من القرية، ورحلوا سيراً على الأقدام. كلما توقفوا في مكان قريب أو في محيط القرية، كانت تحملهم آليات الجند وترمي بهم بعيداَ، هكذا حتى وصل بعضهم لحدود الأردن وبعضهم الآخر لمدينة رام الله. لن أصف لك رحلة التهجير ولا قسوة اللجوء، ولا كيف أصبحت الخيمة بيتاً من طوب، ولا كيف بنى جدي منزلاً فيما بعد، لا بد وأن في مخيلتك بعضاً من هذه الصور. النكسة يا نسيان نكبة أخرى، تهجير آخر، نحن لم "ننزح"، لقد طَرَدَنا الجند وطاردنا.
في الخامس عشر من نيسان من العام 1998 قضت جدتي نحبها في مشفى رام الله الحكومي، وهي تهذي باسم والدي الذي كان في السجن حينها، لم تكن تريد من الدنيا شيئاً بعد، إلا أن ترى ولدها وتضمه إلى صدرها، وتنشد له بعضاً من أهازيجها، وتطبع على جبينه قبلة هي الأروع من بين القبل.
ملاحظة: كل القصة حقيقية، حتى ما أخبرتك به بشأن "الراديو"، وستي اسمها الحجة صفية إم محمد، وكانت زغروتتها الأقوى بين النساء، وضحكتها الأجمل بينهن، وقبل أن تموت بعام واحد تسللت لقريتنا "بيت نوبا" قبلت التراب وعادت تحمل بعضاً منه.
صديقتك التي أورثتها جدتها ضحكتها العالية
This comment has been removed by a blog administrator.
ReplyDelete