نيسان يا كل الحكاية،
اشتقت إليك، ويكاد الشوق يذهب بأنفاسي بعيداً بعيداً إلى حيث أنت. أين أنت؟ لم أعد أشعر بك قربي، نادرة هي الصباحات التي تكون فيها ابتساماتي لأجلك، أين تكون روحك حين أحتاجها؟ أين تذهب كل الأمنيات التي أبعثها إليك؟ أين أنت يا نيسان؟ ظننت أنك ستكون موجوداً في كل مكان، فأنت في قلبي ما دام في قلبي نبض.
مُتعِبٌ هو حبك وقاتلٌ هو رحيلك. لا أدري إن كنت سأتخلى عن طقوس الحزن يوما، أنا لا استحق الوحدة التي أورثني إياها موتك، ولكنك حتماً تستحق مني كل هذا الحزن. كنت أواسي نفسي بانكار موتك، أنت رحلت ولم أكن قد أدركت معنى الموت بعد، رحلت وتركت لي الغياب، كل الغياب..
أجد صعوبة في الكتابة إليك، بِتُّ أفضل الصمت على محاولة لملمة كل ما يحدث وسرده لك في رسالة قد لا تصلك، ولكنَّ الصمت متعب أيضاً، ولذلك قررت أن أكتب، لا أدري إلى أين سيأخذني الكلام، لربما يأخذني إليك.
مؤخراً بت أشعر أنني أشكل عبئا حتى على نفسي، لم أعد قادرة على التعامل مع الأمور حولي، هنا صخب لا منطق له، تبدأ الاشياء وتنتهي قبل أن أدركها، البارحة فقط كان هنالك وهج في قلبي واليوم انطفئ، ولا أدري من أشعله ومن اطفئه.
استيقظت صباح اليوم في ساعة مبكرة جدا، الكل نائم، انه يوم عطلتي، لم أنم جيداً فليلتي كانت تعج بالكوابيس والأحلام غير المفهومة، ولكني استيقظت! فتحت النافذة واطرقت السمع، لا يزال الكوكب نائما، ابتسمت، أحسست أنني أملك هذا الهدوء. عندها فقط انتبهت إلى أن اطلالة نافذتي لم تتغير منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاماً.
قبل خمسة عشر عام انتقلنا إلى منزلنا هذا. شقة جديدة، لم تكن جاهزة بعد، كانت بدون ماء، وبدون إنارة، وبدون أبواب داخلية، ولكنا انتقلنا إليها. السبب في ذلك أن أبي الذي أمضى ما يقارب السنتين ونصف في الاعتقال الإدراي لدى الاستعمار الصهيوني خرج من المعتقل ولم نكن قد أنهينا تجهيز البيت بعد. ولإننا لا نمتلك مكاناً آخر نذهب إليه، فالبيت الذي كنا نسكنه أنا وأمي وإخوتي في فترة اعتقال والدي كان في منطقة تابعة "للسلطات الإسرائيلية" ولم يكن باستطاعة والدي الذي يمتلك هوية خضراء وسجلا أمنياً حافلاً لدى "دولة الاستعمار" أن يصل إليه. انتقلنا إلى الشقة الجديدة قبل أن ننتهي من اصلاحها. وأصبحت الشقة الأرضية في الاسكان الكبير الذي لا يزال قيد البناء تعج بضحكات أطفال ظنوا أن البيت الجديد هو عالمهم السعيد.
فيما بعد أكملنا اصلاح البيت وغيرنا تقسيمه أكثر من مرَة، جددنا الطلاء أكثر من مّرة، كما بدلنا الأثاث، ولكني ظللت أراه كما كان عندما نمنا فيه للمرة الأولى، بيت فارغ جدرانه بدون طلاء، غرفه بدون أبواب، والطريق إليه بعيدة.
قبل أن أعود للنوم أدركت أنني أمضيت في هذا البيت ما يكفي، وأن الرحيل عنه قد أصبح ضرورة لا بد منها، أعتقد أن أمي تشاركني هذا الرأي ولكنها بالتأكيد تمتلك منطقا مختلفاً لذلك. يبدو الأمر وكأن هنالك مدة محددة تصلح للعيش في بيت العائلة التي نولد فيها، هذه المدة تتحدد وفقاً لمسار مسبق يضعه الأهل لمستقبلنا. تخضع كل مرحلة من مراحل حياتنا لمعايير وضعت مسبقاً تقيس مدى نجاحنا ومقدار فشلنا، تسوء الأمور في نهاية كل مرحلة في حال لم نقترب من النموذج الذي رسمه لنا أهلنا في مخيلاتهم، يبدأ الأهل في التذمر من فشل أبنائهم، ويدخلون في حالة من الاكتئاب تفرض عليهم أن يسألوا أنفسهم لماذا فشل أولادنا؟ وهل نحن السبب في ذلك؟ عدة مرات في اليوم.
في حالتي كان من المفترض أن تسير الأمور بشكل مختلف عما هي عليه الآن، تعتقد أمي أنني الآن يجب أن أفكر في شيء واحد هو "الزواج"، بالنسبة لها هذا هو المسار الطبيعي لحياتي وليس هنالك أي احتمال لمسارات أخرى، ولذلك فهي لا توفر جهداً لاتمام مهمتها في مساعدتي في العبور للمرحلة الأهم في حياتي، ولهذا يبدو رحيلي عن البيت بالنسبة لها منطقي جداً.
انهيت دراستي الجامعية بتقدير جيد جداً قبل ثمانية أشهر، حياتي المهنية تسير بشكل مرضي فأنا بشكل أو بآخرأعمل منذ تخرجي في مجال تخصصي، وأنا الآن أعمل بجد من أجل الحصول على منحة لإكمال دراستي، ولكن أي من هذا لايقترب من النموذج الذي تريده لي أمي!
أعتقد أن بقائي هنا سيجعلني أفقد العلاقات الدافئة التي تربطني بأٌقرب الناس إلي لمجرد أنها دخلت حيز الرتابة، وامتزجت مع اليومي المقيت للحياة. أمي التي تظن أنني بت جاهزة لما تراه هي طبيعي وضروري، لا تعلم أن كل ما أتمناه الآن أن أكون فتاة بضفيرة، ضفيرة طويلة تتأرجح على ظهري كلما خفق قلبي.
لا أريدك أن تظن أنك مصدر تعاستي، حزني عليك لا بد منه، وشوقي لك كان حتى قبل أن ترحل، كل ما في الأمر أن رحيلك جعلني أكثر هشاشة من قبل، وأنني لن استطيع فتح قلبي لأحد غيرك بهذه السهولة، لا يمكنني أن أنظر في عيني أحدهم دون أن أتذكرك، ولكني أجزم أن السبب هو أن لا أحد ينظر إلي كما كنت أنت تفعل، لقد كنت تراني بقلبك يا نيسان.
حتى يجمعني بك حلمٌ ما.. لك كل الشوق
حتى يجمعني بك حلمٌ ما.. لك كل الشوق