Saturday, April 2, 2016

إنه الأول من نيسان

نيسان..

اشتقت لاسمك، نيسان، اشتقت لصوت الحروف يتقافز في رأسي ويلهو به، اشتقت لقلبي يهمس نيسان كلما اشتدت به الصعاب. أي شوق هذا الذي حملتني إياه ورحلت؟ أي لعنة انت؟ كل شيء حولي تبدل، قلبي لم يعد هو الذي عهدته، صوتي لم يعد هو نفسه، عيوني  أصبحت عيوناً عتيقة، عتيقة جداً. ضحكتي تغيرت رنتها، ولكن شوقي إليك لم يذهب، شوقي إليك اضحى عفريتاً يسكن جسدي؛ من رأسي حتى أطرافي. عندما أحرّك يدي بإتجاه رقبتي يسقط بعض الشوق منها، أراه يتناثر حولي فتُصيبني نوبة من الذهول أو التبلد، أعود إليك، لأيامك الأولى، أعود لاسمك، اسمك أول ماعرفته فيك وأول ما عشته معك. أنا اليوم ثقيلة، أورَثتني ما لا أستطيع ادراكه، كيف يمكن أن أكون وفية لاسمك وأنا لطيلة بعدك عني أصبحت أشتاق اليه.

قد نحب أحدهم، وبعد سنة، سنتين أو أكثر، نكتشف أننا وقعنا في فخ الحضور الأول الذي يمنحنا اياه الحب، التناقضات الأولى، الاختلافات الأولى، لذة أن نكون مع آخر قد لا يشبهنا أبداً أو لربما يشبهنا حدّ الملل. خلال سنوات الحب هذه تتخلق داخلنا عوالم قد لا نستطيع التخلص منها أبدا. وبعد أن نخرج من علاقة مع أحدهم نكتشف تعويذة خطها الحب فوق قلوبنا، ولن نعرف كيف نقرأها، كيف نتخلص منها، كيف نزيل أثرها، تعويذتك كانت اسمك. باسمك أصبحت ثقيلة جدا، أريد أن أشارك أحداً ما لعنتي، ولكن كيف لي وأنا عاهدتك أن أبقى وفية لك؟! أحاول أن أتخطاها، أتخطاك انت، أن أتجاوز اسمك، ولكني في كل مرة أتوقف عن الكتابة إليك، عن التخلص من لعنتك، أراني، أخرج منها إليها.

اليوم تمنيت أن اكون نوتة، نوتة في لحن ما، لربما لحن قديم، من دنده لأول مرة مات من فرط النشوة به. وبعدها تخلّق فوق شفاه فتاة من شدة حزنها دندته ورحلت. لحن قديم نسيه الناس لألف عام أو أكثر، فجاء شاب عاشق وعزفه ليلاً فتنهدت كل كائنات الكوكب بذات اللحظة فمسه الخوف وتوقف عن العزف للأبد. هل سأكون جميلة إن كنت نوتة؟ هل ستعهد لي باسمك لأحفظه لحناً واغنية ورقصاً؟ هل ستسكنني بين شفتيك؟ وستقول لي استريحي على طرف شفتي السفلى، وإذا شعرتِ بضيق الكوكب تعالي لأحفطك أغنية في قلبي؟ أغنية أكون أنا نوتتها الوحيدة. اليوم تمنيت أن أكون نوتة، لإني أعرف أن الأغاني يمكنها تحلق في الفضاء لتطمئن على أحبائنا الذين رحلوا عنا، وتعود لترقد على صوت نبضنا بعد أن يسكن. وأنا إن كنت نوتة يا نيسان سأستطيع الوصول إليك، وعندها سأهمس في أذنك، عد يا نيسان، كيفما شئت عد!

هذا ما كتبته لك ليلة البارحة، كتبت إليك بكل ما اوتيت من حزن، ورقدت فوق قلبي لعله يتوقف عن النبض شوقا فاستريح. ما كان يجب أن أسكبك فوق الورق قبل أن أنام. بفعلتي هذه دعوتك لتسكنني ليلا، ولتظهر لي في المرآة صباحا، لتقف أمامي وأنا أسرح شعري، وتهمس في أذني: "لو لم يكن شعرك اسوداً لما استطعت الاختباء فيه ليلا، لما استطعت الوصول اليكِ". أغمض عيني بقوة وافتحهما بسرعة فتسقط أنت منهما، تنهض مسرعاً وتعبر من خلال المرآة وتختفي، وتترك لي اسمك. أقلبه بين كفي، ألمسه بأطراف أصابعي، وارتديه بسمة تعينيني على مواجهة حقيقة انه يجب أن أستمر بالرغم من كل شيء، بسمة تداعب شفتاي عندما يصيبني اليأس على حين غرة، أرتديه سواداً تحت عيني، وألتحفه ظلاً لكي لا يتوه ظلي عني.

طَلْ وسَألني اذا نيسان دق الباب.. 

إنه الأول من نيسان، أنت لم تأتِ بالطبع، وأنا لم أنتظر قدومك، لم يسألني عنك اصدقائي، وإنما احتفلو بك، سواء عدت أم لم تعد فأنت تعيش بيننا. قصتك التي لا أملُّ من روايتها تمنحني ومن حولي القوة لنحكي قصصنا، ولنسمع قصص الآخرين. حديثي إليك يبث فيَّ الأمل، ليس ذلك الأمل الزائف الذي يوهمنا بأن الحياة لن تحمل لنا المزيد من الألم مجددا، وإنما هو الأمل بأن نعيش حياة سنكون فخورين بها عندما يسألنا أبناؤنا عنها. 

إلى الأصدقاء، أصدقائي وأصدقاء نيسان: نَجوْنا بالكتابة، وسننجو بها 

اكتبو قصصكم عن أحبائكم يا أصدقاء، اكتبوا لهم وعنهم، احكوا لنا عمن رحلوا، من كان يجب أن نعرفهم لكن حماقات الكوكب أخذتهم بعيدا. اكتبوا عن شوقكم وأرسلوه لهم دمعة أو بسمة أو لحناً حرا. اكتبوا عن حزنكم، لا تخجلوا منه فهو أنبل ما فيكم. اكتبوا عن فرحكم المنقوص بدونهم، عن أحلامكم التي نذرتموها للشوق. اكتبوا لهم، للذين رحلوا بعيداً ولم تغب ذكراهم يوما. أخبروهم أن الحياة بعدهم تنقصها الكثير من الضحكات، وأن شوقكم لهم أصبح عادة كونية تشبه بزوغ الشمس كل فجر. أخبروهم عن أحوالكم، عن عالمكم الذي اختلف بعدهم. عن حياتكم التي سكنت، أو التي تغيرت فأصبحت غريبة حتى عنكم. شاركوهم لحظاتكم الأكثر حرجاً، أفكاركم الأكثر سذاجة، ابعثوا لهم أمنياتكم الصغيرة جدا. أحبوهم ولا تخفوا حبكم لهم، لا تخجلوا من الحديث عنه، ولا تحاولوا إنكاره على أنفسكم، واعرفوا دائما أنهم يبعثون لكم من يحرس أرواحكم ومن يحمي قلوبكم لكي لا تهرم من بعدهم. 

نيسان، بعدك على بالي ..


Wednesday, September 23, 2015

نيسان.. أنا اليوم بعيدة

نيسان يا كل الشوق، 

ما الذي يحدث حولنا، كم من المآسي سنشهد بعد؟! كم لقلوبنا أن تحتمل، وكيف لأرواحنا أن لا تصبح سوداء متشققة كالخشب المحترق؟ هذا العالم البشع بوسعه أن يكون أقسى، وبإمكانه أن يصبح أكثر وحشية، ونحن لم يعد بوسعنا أن نواجه كل هذا الألم بأمل قد يخذلنا يوماً ما، ولم يعد بوسعنا أن نتخيل أن ما يحزننا اليوم سيغدو سبباً يدفعنا للابتسام متمتمين لأنفسنا: "ياااه كم أصبحنا أقوياء". ستقول لي ما بالك تتحدثين كعجوز هرمة؟ وسأقول لك أيٌ منا لم تولد في داخله عجوز هرمة بعد؟! ستقول لي: ولكني عهدتك الأقوى وصاحبة الابتسامة الأعمق، ولطالما كانت عيونك تمتلك بريقاً يليق حتى بالحزن داخلك. وسأقول لك: أن السنوات الأخيرة قد تركت بداخلي حزناً يفوق ابتسامتي عمقا، حزناً يمكنه أن يطفئ بريق عينيّ كما تُطفئ شمعة تواجه نافذة مشرعة.

نعم نحن نواجه ظروف الحياة الصعبة بكل ما أوتينا من قوة، ونعم نحن نصنع معجازتنا الخاصة كل صباح، نعم ننهض من تحت الرماد ونواصل السير بعد أن ننفض ذُعرنا عن ملابسنا، ونسير بفخر، دائما نسير بفخر، لا يكسرنا الموت، ولا تُرهبنا المجازر البشعة، ولم ننهزم يوماً أمام الدم فهو قاتنا وزاد حقدنا. ولكننا يا صديقي قد ننهار أمام أول مشكلة عاطفية تواجهنا، ونقلع عن الأمل إذا ما سلبت منا الحياة عزيزا، تستنزفنا تفاصيل الحياة اليومية، ونعجز عن التعامل مع مشاكلنا العادية التافهة، ونفقد حكمتنا إذا تأخرنا عن موعد شرب القهوة في الصباح، ونلزم السرير متذرعين بأن حالة الطقس تشعرنا بالإكتئاب.

 في بعض الأحيان أشعر أنه لم  يبقَ لنا إلا أن نعلّق آمالنا وأحلام أطفالنا الذين لم يولدو بعد على أطراف الأغصان اليابسة في الطرقات التي نمشيها، وإن كنا نعلم جيداً أننا قد لا نراها مجددا. لربما يتشبث بها أحد غيرنا، ولربما تصير أحلامنا الصغيرة أمله، ولربما ترشده علاماتنا التي تركناها في طريقنا إلى طريقه التي ضل السبيل إليها.

قبل أسبوعين ذهبت لزيارة أخي محمد في سجن عوفر، لم تكن الزيارة هي رؤية وجه محمد وسماع صوته فحسب، أنا ذهبت لأعانق التحدي الذي كبر في عيني أخي وقد فعلت. قلب محمدٍ الذي أصبح بحجم الوطن قد خفق بنا عالياً لحظة رؤيته لنا، وقلبي أنا أصبح كالطفل الذي يختبئ خلف رداء أمه خشية أن يبعده أحد عنها. هذه ليست المرة الأولى التي أذهب فيها للزيارة ولكنها حتماً كانت مختلفة. كنت في السادسة من عمري عندما كان أبي يمضي أشهر السجن الإداري التي لا تنتهي في سجن مجدو، أذكر أننا كنا نستيقظ قبل أن تشرق الشمس، أستطيع أن أتذكر التفتيش والانتظار، يمكنني استرجاع بعض المشاهد حول شكل السجن وغرفة الزيارة والشبك الحديدي الذي لم يكن يسمح حتى لأصابعنا الصغيرة بالمرور من خلاله، ولكني مهما حاولت أعجز عن استحضار أي من المشاعر التي رافقتني أثناء زيارتي لأخي هذه المرة. لعلي لم أكن قد أدركت بعد أن الزيارة هي دموع الأمهات وغضبهنّ، هي شوقهنّ لرؤية عيون أولادهنّ، هي فخرهنّ، هي عظمة أرواحهنّ التي لا تغادرهنّ عندما يغادرنّ السجن بدون أبنائهنّ، وهي قلوبهنّ التي تخفق فرحاً وحزناً وشوقاً ولهفة في آن، هي انكسار أصواتهن أمام أصوات أولادهنّ القادمة من سماعة الهاتف، وهي إصرارهنّ على العودة مرة أخرى دون أن يفكرنّ حتى بأنهنّ تعبنّ. أعتقد أنهنّ لا يشغلن أنفسهنّ بالسؤال عن قبح العالم الذي أحضرنَّ أولادهنّ إليه، هنّ فقط فخورات لإنهن استطعنّ أن يكنَّ أمهات، أمهات رغماً عن كل شيء.

أنا الآن بعيدة، بعيدة عن كل ما اختبرته من مشاعر طوال السنين التي مضت، ما يرافقني اليوم مزيج غريب من كل شيء، خليط من الأحاسيس المألوفة وأخرى لا أدري كيف أصفها، أتسائل في كل يوم أي أثر سأتركه في هذه الدنيا، أي نور سينبعث من روحي إن صعدت للسماء وتركتني جسدا خاوياً يبكيه الأخرون ويوارون به حزنهم تحت التراب في مكان يخاف أن يزوره معظم البشر، يتعبني السؤال ويرهقني أنه لا يتركني ويبقى يدفعني نحو ما أجهله تماماً لعلي أجد جواباً أو لعل الجواب يجدني. لم أدعي يوماً أنني الأقوى، ولم أختر لنفسي طريقاً هي الأصعب، بالحقيقة أنا لم أمتلك الكثير من الخيارات في حياتي، كان يجب علي دائماً أن أكون قوية، أن لا أسمح لليأس بالتسلل داخلي، وكان يجب أن أمضي دون أن ألتفت للوراء. أؤمن تماماً أن لكل منا سبب لوجوده  في هذا العالم، وأن كل واحد منا يحمل ما يضيء له دربه ويحمل عنه روحه المثقلة بحزن الكوكب، في النهاية يا نيسان نحن لا نعيش في عالم بشع وقاسٍ لنموت هكذا دن أن نترك نوراً خلفنا.

لا بد أنك لاحظت أني لم أعد أشعر بالرغبة في الكتابة إليك كما في السابق، من يتعود الصمت يألفه يا نيسان، ومن يألف الصمت سيصعب عليه البوح، ويبدو أن الكتابة هذه المرة ستأخذني إلى عولم جديدة ومختلفة تماماً عن كل ما عشناه معاً. إلّا أن الكتابة إليك ستبقى في قلبي كما القُبلة الأولى، مضطرون نحن لتجاوزها ولكننا نحتفظ بابتسامتنا كلما عدنا إليها. هذا لا يعني أنها آخر مرة سأكتب لك فيها، ولكني حتماً لا أعدك بالكثير.

حتى ألقاك روحاً تحلق بروحي بعيدا، لك مني كل الحب.




Tuesday, March 31, 2015

سنهزم أنفسنا بأنفسنا

نيسان.. 

أنت اليوم في كل مكان حولي، اسمك يبدو حاضراً في كل شيء، يراك أصدقائي في وهج عيني، وأراك أنا بقلبي في نبضه وسكونه. أهو الشوق يا ترى؟ أم أنك حاضرُ فعلا؟ هل عدت لتحرسني؟ أم أنني أصبحت مجنونة تصيبني ذكراك بالحمى فأهذي باسمك وأراك لتبتسم لي كلما عبست الدنيا في وجهي!

متعبة جداً يا نسيان لكني سعيدة، نعم سعيدة ولربما أقولها للمرة الأولى منذ زمن، سعيدة لأني أعرف نفسي وأستطيع تمييزها، سعيدة لأني أعرف حلمي وأحمله معي فيحملني إليه، سعيدة لأني لم أستسلم لحزني ولم يهزمني غيابك، وسعيدة لأني متعبة! ومتعبة لأني لازلت حية! أن تشعر بالتعب يعني أنك لازلت تقاتل، وأنك لا زلت تحتفظ بشيء ما بداخلك لتخوض به المعارك التي وجدت نفسك مجبراً على خوضها كي لا تخسر نفسك. 

بداخلنا عوالم كثيرة، ويخيل لي أنها ستحتلنا في لحظة ضعف، هل تخيلت يوما أن تحتلك الأفكار التي يحملها رأسك الشقي؟ هل فكرت يوماً أن ما تؤمن به سينقلب عليك؟ وأن الأغاني التي تحفظها وأبيات الشعر التي حفرتها في ذهنك ستهوي بك إلى وادٍ سحيق، وأن تلك المقاطع الغير مفهومة من كتب الفلسفة والروايات والتي أجبرت نفسك على الاحتفاظ بها ستحاصر روحك وستطلب منها الرحيل بعيداً! حينها سيغدو قلبك جافاً بلا موسيقى ولا رقص، وعيناك فارغتان بدون اسم او معنى. بداخلنا عوالم كثيرة لا ندري أين بدأت ومن خلقها ولا نعلم أين ستنتهي، وبداخل قلوبنا ممالك من حزن وأخرى من خيال لا ندرك حجمها، وتسكننا أحلام لا ندري كيف آويناها داخلنا.
سنهزم أنفسنا بأنفسنا، ولذلك لا أحد يستطيع كسرنا، ولذلك أيضاً نحن لا نتراجع، ونبقى واقفين رغم أننا ظننا أن وجعنا قد أفقدنا القدرة على النهوض، نحتفظ بالضحكات ونحبها صاخبة، نتمسك بالابتسمات ونحبها عميقة وغاوية، وننشر بريق أعيننا كالنور ونحبه نقياً كصرخة طفلٍ لحظة ولادته، وذلك لإننا نعلم جيداً أنه لن يهزمنا أحد إلا نحن!

البارحة أخبرت صديقي أني أعتقد أننا فقدنا هويتنا وانتمائنا ولكننا لا نشعر بهذا، وأن تجاهلنا للمشاكل والأزمات التي يراها الآخرون جانبية وغير هامة، وتهميشنا لأفكارنا الصغيرة جعلنا غير قادرين على حل المشكلات الكبيرة ولم يعد بامكاننا مواجهة مشكلتنا الأساسية، ولذلك أصبحنا نبرع في اختلاق الخلافات والاختلافات لنشغل بها أنفسنا، صمت صديقي قليلا وسألني: "يعني أزمة هوية؟" ربما، أجبته ، لكن صدقني نحن لم نعد نعرف ما الذي  نريده.  

نيسان.. عندما كانت روحي تحترق بسببك كانت روحك تحلق بعيدا لا أدري إلى أين، وأغلب الظن أنك أنت نفسك لا تدري، وأصبحت أعقد أن روحك هجرتك وتركتك تواجه الأسئلة وحيدا. وبدونها أنا لا أعرفك، ولا يمكنني أراك من خلال عينيك، روحك كانت بريقهما وروحك كانت أنت، وهكذا كنت أعرفك!
قبل أن أنهي رسالتي يجب أن تعلم أنني عدت أنسج لنفسي قصص تحمل نهايات سعيدة وابتسامات كثيرة، وأن بعض من الكوابيس التي رافقتني لأكثر من عام ونصف رحلت الآن، وأني وعدت نفسي أن أزور البحر لعلي ألقاك هناك، سأذهب إليه وإن لم أجدك سأترك لك أغنية لعلها تعود بروحك إليك.




يوماً ما ستجيء إليّ، وسيكون حضورك كما غيابك

صديقتك التي أسعدها التعب

Thursday, February 12, 2015

متأخرة بخطوة واحدة

نيسان،

ينقصني الشغف
ينقصني الشغف في كل شيء،

هل سبق وأن شعرت بأنك متأخر في كل شيء، متأخر بخطوة واحدة فقط، متأخر عن الحب بخطوة واحدة، متأخرعن الفرح بخطوة واحدة، متأخر عن الحزن بخطوة واحدة، متأخر عن حياة من تعرفهم بخطوة واحدة، متأخر حتى عن نفسك!
أنا هكذا يا نيسان دائما متأخرة بخطوة واحدة، متأخرة عن كل شيء، أصل متحمسة عندما يكون الآخرون قد بدأوا يشعرون بالملل، أصبح جزء من القصص المثيرة عندما تقترب نهايتها، أعرف البهجة بعد أن تشيخ وتخفت أضوائها، أزور الحزن في روحي لأواسيه وهو يحتضر.

في بداية هذا العام قررت أن أبدأ بكتابة يومياتي، كنت جادة بهذا القرار، ولكني لم أكتب أي شيء، لم يحدث ما يستحق الكتابة، كان هذا حتى ليلة أمس عندما نهضت مذعورة من فراشي ولم أستطع النوم، نبضي كان سريعاً وأنفاسي متلاحقة حاولت أن أشرب قليلاً من الماء لأهدأ ولكن ذلك لم ينفع، أشعلت الضوء الصغير بجانبي ونهضت من سريري ولا أدري كيف أحضرت دفتري وقلما كان بجانبي وبدأت بالكتابة .. وكان أول ما كتبته: "أعتقد أن روحي تحترق..!"
أفرغت ذعري في صفحتين، أغلقت دفتري، أعدته إلى مكانه، عدت إلى سريري، وظللت فيه حتى الصباح، لم أنم للحظة واحدة، ولكني لم أنهض منه ولم أفعل أي شيء!
أتظن أني أصبحت أخشى الكتابة؟ أم أني لم أعد قادرة على مواجهة مخاوفي؟ لو أنك تكتب لي مرة واحدة بعد، لربما سأواجه مخاوفي لأصل إليك، ولربما سأتوقف عن الكتابة وأمزق أنصاف الرسائل التي أكتبها ولا أكملها ولا أرسلها. أكتب لي يا نيسان، أكتب لي وأخبرني أنك لا تقرأ رسائلي أبداً، وأنها لا زالت مغلقة، وأن طبقة كثيفة من الغبار تغطيها. أكتب لي لتطلب مني بنبرة قاسية جافة أن أتوقف عن الكتابة إليك، أن أتوقف عن إرسال الرسائل عبثا. أكتب لي لتخبرني أنك تشتاق لي، وأن لا كلمة مما أكتب سترد إليك روحك، وأنك لن ترضى أن تلتقي بي بين سطور الكلمات التي أرسلها.

ولكنك لم ترحل!
ماذا يعني أن يخرج لي وجهك في فنجان القهوة، نعم كنت أنت كان وجهك ينظر إلي، كانت شامتك، وعيناك، ظننت أنني أتخيل وجهك في فنجاني بادئ الأمر ولكن صديقتي ضحكت عاليا وهي تنظر وقالت: "ها انظري انه وجه شاب في فنجانك! هااا عريس حتما إنه عريس". ابتسمت، أظنني ابتسمت لك، أأذهب بفنجاني إلى عرافة ما وأقول لها أخبريني ماذا ترين؟! ولكن لماذا أذهب؟ كنت أنت في فنجاني وهذا لا يحتاج إلى تفسير، لا أحتاج لأحد ليخبرني بأني أهرب منك وأنك تلاحقني، لا يمكن لأحد أن يخبرني أنني احتسيتك شوقا ذات مساء فخرج لي وجهك في فنجان القهوة.

كل شيء يحدث بسرعة، ما يشغلنا اليوم ننساه غداً فهنالك أمرٌ آخر لا يقل عنه شئناً أصبح يحتل أحاديثنا الصباحية، ونقاشاتنا على طاولة الغداء، وحتى مواضيع النكات والسخرية مع أصدقائنا. ما نراه اليوم حدثاً جللاً  يصبح أمراً عادياً مقارنة بما يحدث في اليوم اللاحق، لم يعد بنا طاقة أو حتى مزاج لندخل في نقاشات طويلة حول أي موضوع كان. لذلك ربما لم أعد أعلق لك في رسائلي على ما يحصل من قضايا وأحداث كما كنت أفعل سابقاً، ولربما أنا فقط أبرر لنفسي غيابي وعدم اكتراثي وعجزي عن الكتابة، ولربما في كل مرة أكتب لك حول قضية أو فاجعة سياسية ما أقول لنفسي "شو بدك بوجع هالقلب" وأتراجع عن الكتابة إليك، أعود بأوراقي إلى مكانها وأنسى أني كتبت رسالة لم تنتهِ بعد.

نيسان لا أريد أن أفقد شغف الكتابة إليك ولا أدري كيف أفعل هذا!
عد أو ارسل لي طيفك




Sunday, December 28, 2014

عن "الموتى" الحقيقين الذين كتب عنهم أحبائهم

أيها الغائب..

لم يعد البعد وحده ما يوجع، لم يعد رحيلك وحده القاتل، فوجودي مميت أيضاً. هذا الهواء الذي نتنفسه موجع، الاستقياظ في الصباح موجع، احتساء القهوة على عجل، الأفكار التي تراودني في طريقي إلى عملي، محاولة اختلاق كذبة مقنعة عن سبب تأخري في الصباح، محاولات الابتسام التي يُفشلها النبض الثقيل، ومحاولات الاستمرار أطول فترة ممكنة دون بكاء، كل هذا موجع وقاتل، وكل هذا يفوق الرحيل وجعا.
أن ندّعي طوال الوقت أنَّ كل شيء على ما يرام، وأنَّ أكبر انكسارتنا هي مجرد انتكاسة سننهض منها أقوى مما كنا عليه قبلها، وأننا نمتلك من الأمل ما سيمكننا من مواصلة ما بدأنا به غير مدركين انه انتهى منذ اللحظة الأولى التي شعرنا فيها بالتعب.
بِتُّ أقضي وقتا لا بأس به من الصباح وأنا أتفقد الأثر الذي تركه كل ما يحصل على ملامح وجهي، تلك الخطوط السوداء التي تزداد عمقا، أمرر أصابعي فوقها  ثم أتفقد أصابعي خوفا من إلتصاق بعض من السواد بأطرافها.

تحملّنا الأيام أكثر مما يمكننا احتماله، ياه كم نحن ضئيلون أمام وجع الاخرين! شعرت بعجزي وضعفي عندما رأيت الاخرين يفيقون من حزنهم وألمهم ويصفعون الموت ويمضون في حياتهم. أحسست بأن لا جدوى من الكتابة إليك عندما بت أشعر أن كلماتي تافهة وناقصة أمام كلماتهم. وجعي أصبح أعمق عندما اجتاحني حزن الآخرين، وفقداني بدى غريباً عندما أحسست بفقدانهم لأحبائهم. حينها فقط بدى كل شيء مختلف، كأنك ترحل من جديد، وكأن غيابك كان بالأمس.
بِتُّ أريد دفن الذكريات لا احيائها،  بِتًّ اريد نسيانك لا استحضارك، أنساك ليرحل باقي الموتى الذين لا أعرفهم ، ليرحل الموتى الحقيقون الذين كتب عنهم أحبائهم!

عندما قرأت ما كتبته هالة زوجة الشهيد خالد حمد إلى زوجها بعد استشهاده أحسست أن العالم توقف عند كلماتها، كان حزنها مألوفا ولكنه فاق أي حزن عرفته في حياتي. كم من الوجع حمَلَتْه هالة إلينا في رسالتها إلى زوجها الشهيد، وأي أثر تركه وجعها فينا!
توقفت عن الكتابة بعد أن قرأت رسالة هالو وتخيلت أنني لن استيطع الكتابة إليك مجددا، فعند رسالة هالة اكتمل الحزن، وبكلماتها وصل الوجع الحد الذي يستحيل بعده الشفاء.
خالد وهالة أبكياني كثيرا، أن تعاتب زوجة الشهيد وحبيبته زوجها لرحيله تاركاً إيها وطفلها الذي لم يراه وحدهما، وأن تعاهده أنها لن تفارقه حتى إن كان هو فارقها، أن تكتب له عن طفلهما الذي كانا ينتظران ولادته، وأن تصف شهور حملها الأخيرة بدون رفيق دربها الذي رسمت معه كل تفاصيل حملها وولادتها، وأن تعيش تلك التفاصيل وحيدة فيما بعد، كل هذا كان كفيلاً ليتوقف قلبي عن النبض.
رحل خالد إلى الأبد، ولا شيء سيعيده إلى عائلته من جديد، وأنجبت زوجته طفلة جميلة هي الآن مهجة قلب أمها، وأملها في هذه الحياة التي لم تكن منصفة معها أبدا. وها أنا أكتب إليك مجددا، وسترى إرتباكي وترددي في رسالتي فهو واضح جدا، ولكن في النهاية كان لا بد أن أعود إليك أنت الذي لن تعود إليّ أبدا.

هل أخبرتك من قبل أن البهجة هي أجمل ما فينا لكنّا نخشاها؟! نخشى على أنفسنا من لحظة حزن قد تباغت عيوننا إن ابتسمت مطولاً، ونخاف أن تسرق البهجة الحزن من قلوبنا ونحن بتنا نقدسه، حزننا الذي هو أصدق ما فينا وأنبل ما تحمله قلوبنا، أي تناقض هذا الذي نعيش فيه يا نيسان! 
ها قد أتى الشتاء من جديد، وأنا ما زلت لا أطيقه، الشتاء قاسٍ ومظلم، والبرد موحش، نعم البرد موحش، وليالي الشتاء الطويلة تدفعنا للتكور داخل أنفسنا فنشعر حينها كم نحن وحيدون وضعيفون. لست سودواية جدا، ولا تخف فأنا لم أتحول إلى كائن مقيت عابس، ولكن البوح لك ينتهي بي هنا، إن لم أعرّي حزني أمامك، وإن لم تصغي أنت إلى حماقاتي فمن سيفعل!
أخباري لا جديد فيها، بت أريد الرحيل أكثر من أي شيء آخر، الابتعاد عن كل شيء يبدو حلاً مناسباً، ستقول لي أن الهروب ليس حلا، ولكني لم أعد أمتلك شيئاً هنا، ولا أريد أن أخسر نفسي في جملة ما خسرته من أشياء. ومع كل هذا لا زلت أحتفظ بباتسامتي التي تعرفها جيدا، لن أتخلى عنها فما كان لك يوماً  لن يجبرني أي أحد على التخلي عنه.


إلى أن أراك.. أبعث إليك ابتسامتي وشوق لا ينتهي



Saturday, April 12, 2014

عن ستي صفية

عزيزي نيسان،

كنت قد أخبرتك من قبل أن المكان ضاق بي، وروحي لم تعد قادرة على التحليق في سماء باتت تعجز عن احتضانها، وكتبت لك مراراً عن توقي للرحيل. كنت قد صورت لك حزني ووحدتي ولكنك لم تفعل شيئاً غير أنك كففت عن الظهور، قل لي أني سأصبح روحاً تحلق في السماء وسآتي إليك.

أكره هذا الشعور القاتم،  شعوري بأني وحيدة رغم الاكتظاظ الذي يعبث بحياتي، لا أدري اي تناقض هذا، ولا أدري متى سأنتهي منه. أحتاج لنفسي قوية لأقف بجانب نفسي، احتاجها لتصوبني عندما أخطئ، أحتاجها لأشكو لها ضعفي وبؤسي عندما تصبح خطواتي ثقيلة، أحتاجها لأحلم ولأبقى.


منذ مدة ورأسي ممتلئ بأفكار حول الموت،  ماذا لو مت غدا؟ّ مذا لو كان هذا اخر يوم في حياتي، هل قلت كل ما أريد أن أقوله؟ هل أخبرت الذين أحبهم أني أفعل؟ ماذا عن الأحلام التي سأتركها خلفي؟ لمن سأتركها؟ هل تستحق مني هذه الحياة أن أتمسك بها أكثر؟ ما الذي سيدفعني لطرد فكرة الموت بعيداً والبحث عن اسباب الحياة والتمسك بها؟ هذا العالم مميت وقاتل يا نيسان، كل يوم نخسر شيء من الذي يضيء أرواحنا، ولا شيء يمكنه أن يعوضنا عن خساراتنا الصغيرة هذه.

في مثل هذا اليوم، وقبل ستة عشرعاماً توفيت جدتي. رحلت وتركت خلفها الكثير من الحزن، والكثير من القصص التي لم تحكها لنا. لروحها أبعث سلامي وشوقي، ولكن دعني أخبرك المزيد عنها.

عندما ماتت جدتي أصبحت نجمة في السماء، الجدات لا يرحلنّ عندما يمتن، لا يمكنهنّ أن يغادرنّ بهذه البساطة، هنّ فقط يصبحنّ متعبات متعبات جداً "وجع القلب بقصر العمر يا ستي"، وجدتي كان نصيبها من الحياة كل الوجع . قلبها الكبير لم يعد يحتمل، لحظات الانتظار أصبحت ثقيلة، ودموع الصلوات أصبحت مُرّة. حدثتُكَ عن "ستي صفية" من قبل، جدتي التي أورثتني ضحكتها الرنانة. وأكتب لك اليوم عن جدتي التي رحلت ولم أبكها. لم أبكها لإني كنت صغيرة لا أعرف معنى الموت، أنا لم أودعها ولم أرها ميتة، ولذلك بقيت في ذهني صورتها وهي على سجادة الصلاة، في حضنها مسبحتها الطويلة.

أراها ترفع يداها عالياً للدعاء ويختفي صوتها عندما تبدأ في البكاء، ويختفي بكائها عندما تراني استرق النظر من شق الباب، فتدعوني بيدها وتجلسني في حضنها، تداعبني حتى يعلو صوت ضحكتي تتبعها صوت ضحكتها، وبعد أن تتعب من الضحك تصمت قليلاً وتمسك بيدي وتنظر في عيني وتسألني: "أبوكي رح يطلع من السجن؟" ودون تردد أجيبها: "ااه طبعاً رح يطلع!".

أخبرتني أمي أن جدتي كانت دائماً تسألنا هذا السؤال: "رح يطلع أبوكم من السجن يا ستي؟؟" وكانت تقول: "خذ فالها من اطفالها". اجاباتنا أو نظرات عيوننا الصغيرة كانت تعني لها الكثير، جدتي كانت تؤمن أن الاطفال يقولون الصدق دائما، وأن الله هو من ينطقهم. في المرات القليلة التي كنّا نجيبها: "ستو بابا مطول ليطلع" كانت تصمت حزناً، وتغيب ضحكتها عن المنزل لعدة أيام.

لطالما سألت نفسي: ماذا لو لم تمت جدتي؟ يأخذني السؤال بعيدا بعيدا، لكان بيتها الآن جنة أحفادها، لكانت رائحة خبزها تدفئ الجدران القاتمة، ولكانت مزهرياتها المزركشة في مكانها في زوايا البيت وفوق النملية وعلى حافة النافذة، لكانت صورنا مغروسة في البراويز الكبيرة تبعث فيها الحياة، ولكنت الآن بقربها أداعبها وأمازحها وأخبرها أنها لازالت صبية وأنها جميلة تنافس صبايا العائلة بجمالها، وأني أحب غطاء رأسها الأبيض الطويل وأحب عصبتها المزركشة وأني أحب شامتها وأني ِأشبهها .. "صح يا ستي أنا بشبهك؟ أحكيلهم إني بشبهك خليهم يغارو مني..". ولكن جدتي الآن نجمة في السماء، نجمة بعيدة ومضيئة، وأنا لا أشبه نجمات السماء، ولا أعرف كيف أصبح مثلهن.

قبل عدة أيام التقيت بصديق لي صدف أن جدته كانت مريضة، لا أدري كيف حضرت جدتي إلى بالي حينها، أحسست أني مشتاقة جداً لها، وأحسست أن رحيلها كان صعب. لازمني هذا الشعور طوال اليوم وكأن جدتي ماتت البارحة، فقررت أن أمر بالمقبرة لأزورها في طريق عودتي الي البيت، وهكذا فعلت. وصلت المقبرة وكانت فارغة تماماً إلا من هذا الكم الهائل من الشواهد البيضاء، دخلت من الباب الذي اعتقدت أنه يوصل إلى قبر جدتي، ولكن كل شيء بدا مختلفا، قبر جدتي لم يعد بمكانه! قرأت شواهد أكثر من مائة قبر، وتجولت في المقبرة لمدة نصف ساعة أو أكثر، ولم أعثر على قبر جدتي. ياه كم مر من الوقت حتى نسيت أين هو القبر، غضبت من نفسي وشتمتها وعدت إلى المنزل دون أن أزور جدتي.

في صباح اليوم التالي علمت أن جدة صديقي قد توفت، غمرني حزن عميق، أنا لا أعرفها ولم أسمع عنها إلا القليل، ولكني أحسست بها تغادرني، وكأنها مرت أمامي مصطحبة معها جدتي، لم أكن قد فكرت بموت جدتي من قبل، لم أفكر بقلبها الذي اهترئ حزنا فقرر أن يستريح، ولم أنتبه لحقيقة أنها رحلت ولم أبكي لرحيلها إلا متأخراً. في تلك الليلة أخذني البكاء، بكيت كثيراً وودعت جدتي وأهديتها الكثير من الكلام، حاولت أن أتذكر كل التفاصيل التي جمعتني بها، بعض مما تذكرته كتبته لك، والبعض الآخر احتفظت به لنفسي.

أعلم أن الموت قريب منّا جدا، أعلم أنه يراقب خطواتنا، ويعد أنفاسنا، أعلم أنه يرافقنا إلى النوم، وأنه يستيقظ قبلنا في الصباح. الموت ليس حدثاً منفصلاً، وليس اللحظة الذي يصبح فيها الجسد دمية لا تتحرك، الموت في كل شيء والموت في التفاصيل. ونحن بالرغم من ذلك نعيش ونتشبث بالحياة، ونحلم ونقتات على الأمل، نحزن وتهرم قلوبنا ونظل ننتظر لتعود لصباها من جديد. 


صديقتك التي هَرِمَ قلبها
\

Sunday, February 23, 2014

فتاة بضفيرة

نيسان يا كل الحكاية،

اشتقت إليك، ويكاد الشوق يذهب بأنفاسي بعيداً بعيداً إلى حيث أنت. أين أنت؟ لم أعد أشعر بك قربي، نادرة هي الصباحات التي تكون فيها ابتساماتي لأجلك، أين تكون روحك حين أحتاجها؟ أين تذهب كل الأمنيات التي أبعثها إليك؟ أين أنت يا نيسان؟ ظننت أنك ستكون موجوداً في كل مكان، فأنت في قلبي ما دام في قلبي نبض.

مُتعِبٌ هو حبك وقاتلٌ هو رحيلك. لا أدري إن كنت سأتخلى عن طقوس الحزن يوما، أنا لا استحق الوحدة التي أورثني إياها موتك، ولكنك حتماً تستحق مني كل هذا الحزن. كنت أواسي نفسي بانكار موتك، أنت رحلت ولم أكن قد أدركت معنى الموت بعد، رحلت وتركت لي الغياب، كل الغياب..

أجد صعوبة في الكتابة إليك، بِتُّ أفضل الصمت على محاولة لملمة كل ما يحدث وسرده لك في رسالة قد لا تصلك، ولكنَّ الصمت متعب أيضاً، ولذلك قررت أن أكتب، لا أدري إلى أين سيأخذني الكلام، لربما يأخذني إليك.

مؤخراً بت أشعر أنني أشكل عبئا حتى على نفسي، لم أعد قادرة على التعامل مع الأمور حولي، هنا صخب لا منطق له، تبدأ الاشياء وتنتهي قبل أن أدركها، البارحة فقط كان هنالك وهج في قلبي واليوم انطفئ، ولا أدري من أشعله ومن اطفئه. 

استيقظت صباح اليوم في ساعة مبكرة جدا، الكل نائم، انه يوم عطلتي، لم أنم جيداً فليلتي كانت تعج بالكوابيس والأحلام غير المفهومة، ولكني استيقظت! فتحت النافذة واطرقت السمع، لا يزال الكوكب نائما، ابتسمت، أحسست أنني أملك هذا الهدوء. عندها فقط انتبهت إلى  أن اطلالة نافذتي لم تتغير منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاماً.

قبل خمسة عشر عام انتقلنا إلى منزلنا هذا. شقة جديدة، لم تكن جاهزة بعد، كانت بدون ماء، وبدون إنارة، وبدون أبواب داخلية، ولكنا انتقلنا إليها. السبب في ذلك أن أبي الذي أمضى ما يقارب السنتين ونصف في الاعتقال الإدراي لدى الاستعمار الصهيوني خرج من المعتقل ولم نكن قد أنهينا تجهيز البيت بعد. ولإننا لا نمتلك مكاناً آخر نذهب إليه، فالبيت الذي كنا نسكنه أنا وأمي وإخوتي في فترة اعتقال والدي كان في منطقة تابعة "للسلطات الإسرائيلية" ولم يكن باستطاعة والدي الذي يمتلك هوية خضراء وسجلا أمنياً حافلاً لدى "دولة الاستعمار" أن يصل إليه. انتقلنا إلى الشقة الجديدة قبل أن ننتهي من اصلاحها. وأصبحت الشقة الأرضية في الاسكان الكبير الذي لا يزال قيد البناء تعج بضحكات أطفال ظنوا أن البيت الجديد هو عالمهم السعيد.

فيما بعد أكملنا اصلاح البيت وغيرنا تقسيمه أكثر من مرَة، جددنا الطلاء أكثر من مّرة، كما بدلنا الأثاث، ولكني ظللت أراه كما كان عندما نمنا فيه للمرة الأولى، بيت فارغ جدرانه بدون طلاء، غرفه بدون أبواب، والطريق إليه بعيدة.

قبل أن أعود للنوم أدركت أنني أمضيت في هذا البيت ما يكفي، وأن الرحيل عنه قد أصبح ضرورة لا بد منها، أعتقد أن أمي تشاركني هذا الرأي ولكنها بالتأكيد تمتلك منطقا مختلفاً لذلك.  يبدو الأمر وكأن هنالك مدة محددة تصلح للعيش في بيت العائلة التي نولد فيها، هذه المدة تتحدد وفقاً لمسار مسبق يضعه الأهل لمستقبلنا. تخضع كل مرحلة من مراحل حياتنا لمعايير وضعت مسبقاً تقيس مدى نجاحنا ومقدار فشلنا، تسوء الأمور في نهاية كل مرحلة في حال لم نقترب من النموذج الذي رسمه لنا أهلنا في مخيلاتهم، يبدأ الأهل في التذمر من فشل أبنائهم، ويدخلون في حالة من الاكتئاب تفرض عليهم أن يسألوا أنفسهم لماذا فشل أولادنا؟ وهل نحن السبب في ذلك؟ عدة مرات في اليوم.

في حالتي كان من المفترض أن تسير الأمور بشكل مختلف عما هي عليه الآن، تعتقد أمي أنني الآن يجب أن أفكر في شيء واحد هو "الزواج"، بالنسبة لها هذا هو المسار الطبيعي لحياتي وليس هنالك أي احتمال لمسارات أخرى، ولذلك فهي لا توفر جهداً لاتمام مهمتها في مساعدتي في العبور للمرحلة الأهم في حياتي، ولهذا يبدو رحيلي عن البيت بالنسبة لها منطقي جداً.

انهيت دراستي الجامعية بتقدير جيد جداً قبل ثمانية أشهر، حياتي المهنية تسير بشكل مرضي فأنا بشكل أو بآخرأعمل منذ تخرجي في مجال تخصصي، وأنا الآن أعمل بجد من أجل الحصول على منحة لإكمال دراستي، ولكن أي من هذا لايقترب من النموذج الذي تريده لي أمي! 

أعتقد أن بقائي هنا سيجعلني أفقد العلاقات الدافئة التي تربطني بأٌقرب الناس إلي لمجرد أنها دخلت حيز الرتابة، وامتزجت مع اليومي المقيت للحياة. أمي التي تظن أنني بت جاهزة لما تراه هي طبيعي وضروري، لا تعلم أن كل ما أتمناه الآن أن أكون فتاة بضفيرة، ضفيرة طويلة تتأرجح على ظهري كلما خفق قلبي.

لا أريدك أن تظن أنك مصدر تعاستي، حزني عليك لا بد منه، وشوقي لك كان حتى قبل أن ترحل، كل ما في الأمر أن رحيلك جعلني أكثر هشاشة من قبل، وأنني لن استطيع فتح قلبي لأحد غيرك بهذه السهولة، لا يمكنني أن أنظر في عيني أحدهم دون أن أتذكرك، ولكني أجزم أن السبب هو أن لا أحد ينظر إلي كما كنت أنت تفعل، لقد كنت تراني بقلبك يا نيسان. 

حتى يجمعني بك حلمٌ ما.. لك كل الشوق